للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فائدة: اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما أعظم أساطين الدين وأحكم قناطر الإسلام وأهم أحكام هذه الشريعة المطهرة بل هما إذا كانا قائمين كان الدين على أتم قيام وأكمل نظام وإن لم يكونا قائمين في العباد ولم يوجد في البلاد ما يقوم بهما خولفت الشرائع الإسلامية وتعطلت الشعائر الإيمانية، وقال من يشاء من أهل الخسارة ما شاء، وفعل من لم يكن له زاجرٌ ديني ما أراد، لعدم وجود من يأخذ على أيديهم من القائمين بحجة الله في عباده، ولهذا وردت الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في الحث على ذلك والمدح العظيم لفاعلها والزجر الوخيم لتاركها، فمن قدر على ذلك فقد حمل العبء الكبير وقام بالأمر الجليل الخطير، ولا يزال يزداد قوة وتمكناً وثباتاً حتى يتم له مالم يكن له في حساب، ولا خطر له على بال، ولا مر له على خيال، وصار رأساً للفرقة التي قال فيها الصادق المصدوق: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) (١) وكان من القائمين بحجة الله في بلاده على عباده وفاز بالأجر العظيم الذي وعد الله به عباده الصالحين القائمين بما قام به، وإن أدرك في النفس الأمارة بعض جبن في بعض الأحوال، وآنس من طبيعته خوراً وضعفاً في بعض المقامات فليعلم أن ذلك من وسوسة الشيطان الرجيم لأنه أشد عليه من القائمين في مقامات العبادة والقاعدين في مقاعد الزهد والورع والمستكثرين من طاعة الله عز وجل، والعازفين نفوسهم عن معاصيه، وذلك أن كل واحد من هؤلاء صار يجاهد الشيطان عن نفسه ويدفعه عن حوضه ويصارفه عن عشه وبيضه، ويذوده عن أن يتعرض لشيء من طاعاته بالتشكيك عليه أو الوسوسة، وهذه مصلحة خاصة بنفس هذا الرجل الصالح المشتغل بمراضي الله عز وجل المجتنب لمعاصيه. وأما القائم بما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو قائم لإصلاح عباد الله بعد إصلاحه لنفسه فلا يزال زاجراً لهم عن المنكرات مرغباً لهم في أنواع الطاعات محذراً لهم من مكر الشيطان الرجيم مبيناً لهم ما ينصبه من حبائل الخذلان لعباد الله وما يزينه لمن لم ترسخ قدمه في الإيمان، ومن هذه الحيثية كان مقامه عام النفع ومصلحته شاملة للجميع، فهو في حكم المصادر للشيطان عن عباد الله سبحانه المجادل لهم عندما يريد الإغواء بالأهواء والاستدراج بشهوات الأنفس من التنعم باللذات والتمتع بالمحرمات والتلذذ بالموبقات، فهو العدو الأكبر لفريق الشياطين والقائم في كل مواطنه بالمحاربة لهم عن أن يتم كيدهم على أحد من عباد الله الصالحين، والمصاولة لهم عن أن يتسلطوا على أحد من المؤمنين أجمعين، وبهذا تعلم أنه قد أسفر الصبح لذي عينين بأن بين المقامات مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل، ومفاوز تنبت دونها سوابق المطي، بل بين المقامين ما بين السماء والأرض، ولا بد أن ينتهي أمر هذا القائم بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى التمام على ما يطابق المرام، ويوافق رضاء الملك العلام، لأنه قام هذا المقام لتكون كلمة الله هي العليا، وذو الحق غلاب بنصوص السنة والكتاب، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يقاتل حمية وشجاعة وليرى موضعه، أيهم في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) (٢)


(١) رواه البخاري ١٣/ ٢٤٩ في الاعتصام، ومسلم (١٩٢١) في الإمارة.
(٢) تقدم في الصفحة (١٥٥) ..

<<  <  ج: ص:  >  >>