إن تاريخ الحركة يكشف عن مستوى من الثبات لا يخلو من واقعية ومرونة في مواجهة التطورات، وبمعنى أدق: ثبات يفرق بين الاستراتيجي والتكتيكي، وهو موقف غاية في الصعوبة؛ كون الحركة تواجه ثلاثة مستويات من التناقض عليها أن تتعامل معها:
أولاً: التناقض الداخلي الذي يلزمها بالجلوس للتفاوض مع فتح، وهي تعلم أن قادتها يعقدون مجالس أخرى لمناقشة كيفية القضاء على الحركة.
ثانياً: التناقض العربي الذي يجعلها تتباحث مع دول عربية تعلم أنها لا ترى بأساً في سقوط حماس، ودول أخرى تحتضنها؛ بينما تعادي من هم على منهجها الفكري نفسه.
ثالثاً: التناقض الدولي الذي يرى الذبابة في عين اليهودي، ولا يرى الجذع في عين الفلسطيني!
وعند التأمل في مسار حركة حماس نجد أن أهم المنعطفات التاريخية في مسيرتها لم تكن متوقعة من قبل، ولا أعلم أحداً توقعها قبل حدوثها بفترة كافية، ومن أبرزها في العقد الأخير: المشاركة السياسية في انتخابات لا تزورها فتح ولا تعرقلها (إسرائيل) – الفوز الساحق في الانتخابات – السيطرة على غزة وإقصاء عناصر فتح، واستمرار ذلك لما يقرب من عامين حتى الآن.
أدت عدة عوامل متشابكة إلى تفتت الانتماءات السياسية للشعب الفلسطيني، واستغل الصهاينة هذا التفتت في عرقلة (مسيرة السلام).
وفي العقود الأخيرة ازداد الوضع تدهوراً؛ بحيث إن التوافق الفلسطيني بات حلماً للمهتمين بالقضية الفلسطينية، لكن في انتخابات ٢٠٠٦م تحقق أول إجماع فلسطيني مؤكد دون شك أو لبس، عندما اتفق ما يقرب من ثلثي الفلسطينيين على اختيار حماس لتمثلهم في المجلس التشريعي والحكومة، وهو ما يجعل توجيه النقد إلى حماس بأنها (شقت) الصف الفلسطيني مجرد دعوى لا برهان عليها، فكيف تتهم بشق صف اجتمع عليها؟ إن الأولى بهذا الاتهام هم من استمرؤوا القبول بقيادة حماس ولم يستطيعوا مقاومة إغراء السلطة.
ويحتاج الواقع الفلسطيني إلى عملية (إعادة تفكيك) لمفرداته ومصطلحاته ومسلَّماته، وفي مقدمتها ما يدور حول فصل غزة عن الضفة، واتهام حماس بالانقلاب.
هذه التهم تقلب الحقائق، فكيف يفصل بين شقين لم يتصلا من قبل إلا فترة وجيزة عبر ممر سبق الحديث عنه؟ وكيف تنقلب حماس على سلطة (مقلوبة) من الأساس ولا تملك من أمرها شيئاً؟
إن قرارات ومقررات منظمة التحرير والمجلس الوطني الفلسطيني السابقة تنادي بإقامة الدولة الفلسطينية على أي جزء محرر من الأراضي المحتلة. وبالنظر إلى الواقع: أي المناطق التي تستحق وصف (التحرير) أو (الاستقلال) ولو جزئياً؟ لو طبقت هذه القرارات بحذافيرها لكان من حق حماس فعلاً أن تؤسس الدولة في غزة، ولكان حتماً على سلطة الضفة أن تكون تابعة لها.
نختم بكلمتين حول ميثاق حماس الذي يؤرق الكثيرين، لكن ما يحزن أن نجد بعض اليهود يثقون في تمسك حماس بميثاقهم، بينما ينتقد عرب هذا الميثاق، ويَعدُّون أن حماس على طريق التخلي عنه.
المثال الأول: المعلق السياسي المتعصب ضد حماس (بن كاسبيت) كتب في معاريف يقول: (هذا الميثاق المتطرف لحماس، المفصل في كل مبادئه ومواعظه التي يروج لها .. لا يمكن تحريكه .. يدور الحديث عن عقيدة جامدة دينية، وعليه فإن مطلب الحديث مع حماس عديم الأساس في الواقع .. حماس يجب سحقها، ليس أقل من ذلك)!
المثال الثاني: ما كتبه الأكاديمي خالد الحروب ضمن كتابه الذي صدر باللغة الإنجليزية في لندن (حماس .. دليل المبتدئين) يقول الحروب: إن الميثاق كتبه (فرد وعمم دون مشورة أو إجماع أو تنقيح. لقد كان معد الميثاق من الحرس القديم في حركة الإخوان المسلمين في قطاع غزة، وهو من المنقطعين كلياً عن العالم الخارجي).
هذا (المنقطع) عن العالم الخارجي (الملوث)، (القابع) في العالم الداخلي (النقي)؛ لا يزال ميثاقه صامداً حتى الآن؛ لأنه صاغه في جو النقاء لا التلوث، فبقي صامداً في وجه من يكرهونه من الصهاينة، ومن يَعدُّونه من (الحرس القديم) من العرب.
إن الذين يريدون أن يصلوا بحماس إلى اللحظة التي يقف قائدهم فيها بجوار رئيس أمريكي ورئيس وزراء يهودي في تكرار لذلك المشهد المؤلم في ذاكرة العرب، عندما يمد الصهيوني يده ليصافح يد فلسطيني ربما يكون قد قتل أباه وأمه، وهو يبتسم ابتسامة يهودية معروفة منذ الأزل، لمثل هؤلاء نورد لهم كلام هاني الحسن عضو اللجنة المركزية لفتح الذي يقول: (إذا ابتسم الأعداء لنا، فعلينا أن نتساءل: أي حماقة ارتكبنا؟).
أليس رب العالمين من خلقهم؟ فهو يقول عنهم: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} [البقرة: ١٢٠].