فالتشكيلة الاجتماعية السعودية التي على خارطتها تتوزع النخب، وتتحرك عمودياً وأفقياً، أسهم النفط بلا ريب في صياغتها، وأكسبها طابعاً هلامياً ألقى بظلاله على كامل الفضاءات الاجتماعية وما حوته من ممارسات اجتماعية أو سياسية، وكذلك أنماط وعي وأفكار ورؤى. ولم تنجح النخب السعودية بالتخلص من هذا الأثر لكونها عاجزة، كما بينت، عن تحصين نفسها من هذه الاختراقات الخطيرة التي لم يتصد لها ولم يلطفها إلا التعليم.
فقد استطاعت النهضة التعليمية الكبرى التي جندت لها الدولة السعودية الفتية منذ بداياتها الأولى كافة مواردها وإمكانياتها التي تدعمت بعد اكتشاف النفط من خلال مختلف الإجراءات والسياسات، كالابتعاث إلى الخارج، وتركيز بنية أساسية كبرى لخدمة الغرض ذاته، أن تحور في المشهد التقليدي للمجتمع السعودي.
فالتعليم، كما شهده المجتمع السعودي، وخصوصاً في العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، ساهم مساهمة فعالة في ميلاد النخب السعودية وتجددها. ولعل ذلك ما يجعلها مدينة له أيضاً، فتعميم التعليم، وما رافقه من حوافز وتشجيعات، استطاع خلال عقود من الزمن أن يفرز هذه النخب، وبالملامح التي حددتها أثناء البحث، التي بدورها غذت الجهاز السياسي والإداري للدولة السعودية الناشئة، مما جعل سياسة السعودة أمراً ممكن الإنجاز بداية من التسعينيات في العديد من القطاعات الاقتصادية والإدارية على رغم بعض النواقص والملابسات.
لقد استطاع التعليم الذي إليه ترتهن النخب السعودية، كما بينت سلفاً إلى حد بعيد، أن يحدث تعديلاً ما على البنى التقليدية للمجتمع دون أن يفلح في تجاوزها تجاوزاً كلياً على نحو يقوضها، ولكنه وبالمقابل أيضاً خضع بدوره لضغوطاتها، فلقد فازت بعض المناطق والأقاليم بالحظوظ الأوفر منه سواء من خلال سياسات الابتعاث، كما بينا خلال الجداول العديدة أو في حصص التوظيف، خصوصا في المناصب العليا المسندة إلى أصحاب المستويات التعليمية العليا في الجهاز الإداري الحكومي (البيروقراطية). لقد تمكن التعليم – بذاته – وبما أشاعه استناداً إلى بقية الروافد الأخرى، كالصحافة المكتوبة ومختلف بقية الوسائل المسموعة والمرئية للإعلام، أن يغير بعض الشيء من الذهنية الجماعية أولاً وقبل كل شيء.
غير أن العقد الأخير من القرن الماضي حمل بعض المؤشرات السلبية، فالتطور الكمي المهم لنسب التمدرس، رافقه على العكس من ذلك عجز بدأ يخفق في توظيف مخرجات التعليم، وذلك ما لم يكن أحد يتصوره في مجتمع ظل إلى حد قريب ولا يزال مورداً لليد العاملة. إن هذه الأزمة التي بدأت تعتري مخرجات التعليم قد ضيقت الممكنات التي كان التعليم يحتفظ بها لنفسه في مجال الحراك الاجتماعي الصاعد خصوصاً، والذي بدأ يفتر في السنوات العشر الماضية تحت وطأة الفاتورة الباهظة لحرب الخليج وتراجع مشاهد الوفرة والرفاه إلى حد كبير. وذلك ما دفع أفواجاً كبيرة من السباب المتعلم إلى أن تبدي قلقها، وتملكها اليأس النهائي من أن يكون التعليم المسلك المناسب سواء للانتساب للنخب أو لتسلق مواقع النفوذ السياسي، أو حتى الحصول على الوظيفة المناسبة على وجه العموم، مما أسهم أيضاً في دفع النخب إلى الانغلاق والثبات.