هذا المشهد يتكرر إلى حد بعيد مع النخبة الاستشارية، لكون هذه الأخيرة تعودت أن تكون رحماً يتشكل داخله أجنة النخبة الأولى (الوزارية). فالنخبة الشورية تروض وتعرض لعدة اختبارات، حيث تربي الأعضاء مؤقتاً لتدريبهم على تحمل مسؤولية الوزارة في ما بعد، فكأن مجلس الشورى يمرن بعض أعضائه على وظائف وزارة قادمة. هذه الوضعية الانتقالية الضمنية لأعضاء مجلس الشورى عقمها الوضع الآخر الذي لا يقل أهمية، المتأتي من الصيغة التعيينية والاستشارية للمجلس برمته، فهو مجلس لا يمثل المجتمع السعودي بالمعنى الذي تحمله التمثيلية في النظم البرلمانية والديمقراطية الحديثة، على رغم ما يتميز به الأعضاء من تخصص علمي عال مكنهم من الإلمام بثقافات متعددة، وسمة شبابية، مما يجعلهم نظرياً مهيئين للعب دور تمثيلي مهم، وخصوصاً أن بعض دول الخليج التي تنتظم مع المملكة في مجلس التعاون العربي الخليجي بدأت في اقتحام تجارب تمثيلية جريئة على غير ما اعتادت عليه المملكة، وستذكي جذوة المطالبة السياسية التي ظلت إلى حد الآن إما مترددة أو خافتة.
أما في ما عدا النخبة السياسية بالذات، فإن النخبة المشايخية تلعب دوراً وسيطاً ومزدوجاً في الآن نفسه. إنه دور الانتقال من السياسي إلى الثقافي، والذي بمقتضاه تنتقل أيضاً من الخاصة إلى العامة. فهذه النخبة تستحوذ على رأسمال ثقافي ذي بعد رمزي في ظل مجتمع سعودي كنت حددت خصائصه، حيث ما زالت الثقافة التقليدية ذات المنبع الديني تلعب دوراً كبيراً في تشكيل رؤى الناس وتحديد سلوكياتهم وتصرفاتهم، وهي التي تعقد البيعة للملك باعتبارها من أهم مكونات أهل الحل والعقد، وهي التي يوكل إليها أيضاً تعليم الناس دينهم والقيام بمهمة الفتوى وتوضيح الحلال والحرام لمجتمع كافة أفراده مسلمون. وبهذا الدور بالذات تتصدى لما تعتقده آفة تهدد أصالة المجتمع السعودي وثوابته، ألا وهي الثقافة العصرية، التي من منظورها هي علمانية بالضرورة. لهذا نفهم عداءها الشديد للنخبة المثقفة (الإنتليجنسيا) وهي التي وقفت عند تحليلها مطولاً، وخصوصاً أنها قد تربت في محاضن المؤسسات التعليمية العصرية، فنشأت نشأة (حداثية) تعاظمت من خلال التثاقف الحادث تحت مفعول اكتشاف ثقافات جديدة عند الابتعاث إلى الخارج.
لقد استطاعت النخبة المشايخية من خلال الجهاز الإداري والسياسي، وما تمتلكه من تنظيم تراتبي دقيق، وتغلغل مناطقي محكم، وقبول عفوي عن العامة، أن تضيق الخناق على المثقف السعودي بالذات، وخصوصاً أنها هي التي تمرست على المناورات السياسية المبكرة التي نجحت بإبعاد القبائل أو تهميشها حين أشعلت نار الفتنة بين القوة العسكرية والقيادة السياسية (موقعة السبلة)، فأبدعت استراتيجيات ورهانات خاصة بها تحذق بموجبها التفاوض والتنازل والتحالف، وذلك ما أكسبها خطاباً مؤثراً وفعلاً نافذاً.
هذا، في حين ظل المثقف السعودي قليل التأثير لمعوقات موضوعية كنت قد عددتها (هشاشة النخبة المثقفة، غياب مشروع متكامل، افتقاد الصلة بهموم الناس الحقيقية ... الخ)، وأخرى ذاتية تتعلق بالانتهازية والمصلحية الفئوية، وذلك ما يعطل أداءها، خصوصاً وأنها هي الواقعة تحت إغراء المراتب العليا من الفئة البيروقراطية التي تظل نموذجاً لها يوقد طموحها، ويغذي أحلامها وأوهامها أحياناً. فالنخبة البيروقراطية المعشعشة في مفاصل الجهاز البيروقراطي الحكومي (والخاص)، على رغم الصيت السيئ الذي به تنعت في المجتمع السعودي، تظل مارداً إليه تتطلع قطاعات كبرى من المثقفين السعوديين الذين لم يعودوا يؤمنون بأي رسالة، سوى رسالة تسلق السلم الطويل، والمهيمن أحياناً، للبيروقراطية التي عرقلت التنمية، وغذت النزعات الإقليمية والمناطقية والعائلية والفئوية، واستأثرت بسقط وافر مما تعده غنيمة.
إن هذا المشهد السياسي والاجتماعي الذي فيه تتجاوز النخب السعودية، طوراً في ضرب من التنافس أحياناً إلى حد التطاحن، وطوراً آخر في ضرب من المهادنة إلى حد التحالف، لم يغفلنا عن رصد (نخب أخرى) هي نخب مضادة تعمل في صمت وخفية، وتعارض النخب التي تظل وفق منظورها نخباً رسمية تعبر عن نظام اجتماعي لا ترتضيه. هذه النخبة المعارضة تؤكد أن المنظور المثالي للمجتمع السعودي يجافي الحقيقة ويعاديها، إذ إن هناك تعبيرات عديدة رافضة، وعلى رغم كمونها وعدم ظهورها، فقد استطاعت أن تحدد وجهة المسار الذي كان على النخبة المفرزة أن تحذوه في الانعطافات الحديثة للتجربة السعودية، ولربما سيكون المستقبل السياسي والاجتماعي للمجتمع رهيناً بالإصغاء النشط لذلك الصوت الناشز والصامت في الآن نفسه.
لقد أدت في هذه الخاتمة إعادة صياغة الأفكار الكبرى التي تضمنها هذا البحث، ولكن حرصي على التأليف بينها يضعني أمام رهانات أخرى تفتح آفاقاً أرحب للبحث.