الرابع: أن الحكم التكليفي يشترط فيه علم المكلف به، وقدرته على الفعل المكلف به، وكونه من كسبه. أما الحكم الوضعي فلا يشترط فيه علم المكلف، ولا قدرته على الفعل المكلف به، ولا كونه من كسبه، إلا قاعدتان اشترط فيهما ما اشترط في الحكم التكليفي، وهما: الأسباب التي هي جنايات وأسباب للعقوبات، وأسباب انتقال الأملاك.
الخامس: أن الخطاب في الحكم التكليفي، يتعلق دائما بفعل المكلف اقتضاء أو تخييرا، أما في الحكم الوضعي، فإن الخطاب قد يكون متعلقا بفعل المكلف، وقد يكون متعلقا بفعل غير المكلف، وقد لا يكون متعلقا بفعل الإنسان مطلقا.
السادس: أن الأحكام التكليفية كلها من تكليف الشارع وحده. أما الأحكام الوضعية، فقد تكون من الشارع وضعا وإنشاء، وقد تكون من المكلف إنشاء لا وضعا.
ومن أجل ما بين العلة والسبب من أمور كثيرة يتفقان فيها، فقد ذهب التمهيد يوطئ لموضوع البحث ببيان مذاهب العلماء في معنى العلة.
٢ - وقد سجل الفصل الأول البحث في حقيقة السبب، وفي بحثه له قسمه إلى مبحثين.
المبحث الأول: معنى السبب، وفيه تطرق إلى ما قيل في معناه من حيث اللغة، ثم انتقل إلى ذكر معناه الاصطلاحي مبينا الخلاف في ذلك ومنشأه، ومقارنا بين كل معنى قيل فيه وبين المعاني التي قيلت في العلة لبيان أوجه التباين أو التشابه بينهما، ولهذا الغرض نفسه أجرى مقارنة بين المعنى الواحد للسبب الذي قال فيه أحد العلماء أو جملة منهم، أجرى مقارنة بينه وبين المعنى الذي قاله به في العلة.
وفي نهاية بحث هذا المبحث أعلن عن أن التعريف الذي ستدور عليه دراستنا للسبب، هو الوصف الظاهر المنضبط الذي دل الدليل السمعي على كونه معرفا لحكم شرعي. وهو تعريف يشمل ما كانت المناسبة بينه وبين الحكم ظاهرة تدركها عقولنا، أو غير ظاهرة لا تدركها عقولنا.
كما أعلن عن أن دراستنا للسبب، ستتناول السبب بالمعنى الذي ذكره العلماء في تخصيص العام بالسبب الخاص، وهو الداعي إلى الخطاب على طريق الورود، لا على طريق الوجوب والتأثير.
أما المبحث الثاني:، فهو أسباب الأحكام، وفيه ذكر خلاف العلماء، في أن للأحكام أسباباً أو لا، وحصر الخلاف في ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: إثبات الأسباب للأحكام كلها.
المذهب الثاني: إنكار الأسباب للأحكام كلها.
المذهب الثالث: إثبات الأسباب للأحكام سوى العبادات.
وقد كانت النتيجة التي انتهى إليها ترجيح مذهب من قال بإثبات الأسباب للأحكام كلها. وفي هذا المذهب تطرق إلى الخلاف بين المعتزلة والغزالي في أن السبب مؤثر في الحكم بذاته، أو أنه مؤثر فيه لا بذاته، وأعطى القول الذي رآه حقا في هذا.
ثم تطرق إلى ثلاثة أبحاث مبهمة، هي بيان أن نصب السبب سببا، حكم شرعي، وفائدة نصب الأسباب أسبابا للأحكام، والطرق التي بها يعرف السبب.
ثم عقد بحثا فصل فيه الأحكام مع بيان سبب كل حكم على طريقة المتأخرين من الأصوليين الحنفية، وذكر الخلاف في سبب الحكم حيث وجد مع الأدلة وترجيح المختار.
وأعقب هذا بطريقة المتقدمين من الأصوليين الحنفية في أسباب الأحكام في العبادات، ثم ختم ذلك بالموازنة بين الطريقتين، لبيان ما اتفقنا فيه وما اختلفنا فيه، ولبيان قرب إحداهما من الأخرى.