إن أهم العوامل التي أسهمت وما زالت تسهم في استمرار مقومات ذلك الولاء تكمن فيما منيت به النظريات المنقولة التي حاول بعض الحكَّام فرضها بالفشل سواءً في التجارب الديمقراطية بشتى أشكالها واتجاهاتها أم في أشكال الاشتراكية في حل أزمة الظلم الاجتماعي لشعوب المنطقة. ولا يعنينا هنا مناقشة ماهية هذه الأنظمة وما يتصل بها من أفكار وأطر سياسية بقدر ما يعنينا عدم نجاحها في التفاعل مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية وغيرها في الشرق العربي الإسلامي الأمر الذي أدى إلى انحصارها في صفحات الكتب، وربما في أذهان قلة من مفكريها أو مروجيها، وألا يجني الحكام الذين فرضوها سوى تصفيق شعوبهم لا تأييدها، وأدى في نفس الوقت إلى استمرار ثقة هذه الشعوب، التي حاولت هذه القلة من المفكرين زعزعتها، في قدرة أي نظام يستند إلى الإسلام على حل أزمة الظلم الاجتماعي، وتأييدها لأي اتجاه يرى ضرورة البحث عن إطار إسلامي للوحدة بين شعوب المنطقة لوقايتهم من الأخطار المحيطة بهم على الصعيد السياسي.
لقد أدركت هذه الشعوب مدى الخسارة التي حلَّت بضياع هويتهم الواحدة وكما يقول برنارد لويس أنه:((بعد أن كان كل مواطنٍ عضواً من أعضاء إمبراطورية إسلامية كبيرةٍ لها ألف سنة أو يزيد من التراث والتاريخ وجد الناس أنفسهم مواطنين لسلسلة من الدول التابعة والوحدات السياسية الجديدة المفتعلة والتي تحاول إيجاد جذور لها في ضمير الشعب وولائه، وصاحب نسف وانهيار النظام السياسي القديم انحلال اجتماعي وثقافي موازٍ له، ربما كان النظام القديم في حالة تفسخ لكنه كان يقوم بوظيفته حيث كانت الولاءات والمسؤوليات واضحة الحدود والمعالم تجمع الشعب في إطارٍ واحد فاستبدل بما أتي من الغرب فكانت غريبةً على أحاسيس المسلمين وتافهة بالنسبة لحاجاتهم الفعلية المادية والروحية)).
ومن هنا فإنه يكون لهذا البحث في طرحه الموضوعي دورٌ في تحديد الجذور القريبة –تاريخياً ونفسياً- لنموذج الوحدة القائمة على الإسلام والتي امتدت منذ العصر الإسلامي الأول والتي رسخت شعور الولاء لدى شعوب المنطقة من أغلبية إسلامية وكذلك الأقليات غير الإسلامية إذا ما بعدت عن عوامل الفتنة والإثارة من القوى المعادية للمنطقة، وذلك بعد أن جهدت القوى المعادية من خلال أقلام مفكريها ومؤرخيها لتشويهها بغية إضعاف هذا الولاء أو إنهائه لإقامة أنظمة سياسيةً مفتتة على أنقاضها.
لقد أرسى الحكم العثماني، برغم فترات ضعفه أو محاولات إضعافه، العديد من القيم الإسلامية التي ورثها من الحكومات الإسلامية السابقة لعل من أبرزها استمرار ظاهرة الولاء وترسيخها لدى كافة الشعوب الإسلامية للحكومة الإسلامية، واستمرار الثقة في قدرتها على تحقيق القسط الأكبر من الاحترام والحرية لهم، وهو أمرٌ يجسده رغبتهم الجامحة في استعادة هذه الحكومة.
ولقد سعت العديد من المنظمات والجماعات والدعوات الإسلامية السرية والعلنية لترجمة هذا الشعور، وفي نفس الوقت لقيت تأييداً شعبياً واسعاً يزيد بكثيرٍ عن مثيلتها التي نهجت نهجاً ليبرالياً أو وطنياً أو قومياً، وكذلك المنظمات الشيوعية والاشتراكية التي أبدت في برامجها السعي لمساندة الطبقات الكادحة في الشعوب الإسلامية.
ولم تنجح محاولات الحكومات السياسية في اجتثاث جذور المنظمات والجماعات الإسلامية بقدر عدم نجاحها في فرض الأنماط السياسية والاجتماعية الوافدة على القطاعات الواعية المثقفة من شعوب المشرق الإسلامي برغم تملكها للسلطة ولكل الوسائل الإعلامية، ولا تعد الشرائح المحدودة التي نجحت في تجنيدها في هذا الجانب بشرائح ذات قيمة في التأثير على الأغلبية التي ما زالت تلتف حول كل ما هو إسلامي برغم كل مظاهر تطويعها وتغييبها، كما أن الهزائم التي منيت بها المنظمات الإسلامية والتي تزيد من إصرارها على تحقيق أهدافها وليس فقط على مجرد التواجد على الساحة تؤكد مقولة أحد المؤرخين الليبراليين اليهود قبل ربع قرن وهو برنارد لويس أنها ما زالت لم تقل كلمتها الأخيرة.