كما تطرق هذا الفصل إلى حكم تخصيص السبب وإخراجه عن العموم بالاجتهاد، فبين أنه إن كان هناك قرينة تدل على قطعية دخول السبب في العموم، فهو محل اتفاق على قطعية دخوله وعدم جواز تخصيصه وإخراجه عنه بالاجتهاد.
وإن لم يكن هناك قرينة تدل على قطعية دخوله في العموم، فهو محل خلاف بين العلماء: فقيل: إنه مقطوع بدخوله في العموم فلا يجوز إخراجه منه بالتخصيص بالاجتهاد، وقيل: إنه مظنون دخوله في العموم، فيجوز إخراجه منه بالتخصيص بالاجتهاد، وقيل: إن السبب إن كان معيناً فمقطوع بدخوله في العموم، فلا يجوز إخراجه منه بالتخصيص بالاجتهاد، وإن كان نوع السبب، فمظنون الدخول في العموم، فيجوز إخراجه منه بالتخصيص بالاجتهاد.
وقد كانت النتيجة التي انتهى إليها، رجحان مذهب من قال، إن السبب مقطوع بدخوله في العموم، فلا يجوز إخراجه منه بالتخصيص بالاجتهاد.
كما حقق القول فيما عزي إلى أبي حنيفة رحمه الله من تجويزه إخراج السبب عن عموم اللفظ بالتخصيص بالاجتهاد.
ولما كان الشافعي رحمه الله، قد نقل عنه كلا القولين في حكم العام الذي هو أعم من السبب في ذلك الحكم لا غير، حين يكون خاليا من قرينة تدل على التعميم أو التخصيص، ومن نية المتكلم به الجواب، دون قصد لمعنى ما جاء زيادة على مقدار الجواب، وكان التحقيق في القول الذي قال به من هذين القولين، يستحق أن يفرد بالبحث. لما كان الأمر كذلك، صنع هذا الفصل ذلك، وقد كانت النتيجة التي انتهى إليها، ترجيح القول بأنه يرى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وحيث كان الحديث فيما تقدم مقصوداً به كلام الشارع، فقد أردفه بالبحث في كلام غير الشارع، وقد تحصل من بحثه أن للعلماء فيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المذهب الثاني: أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.
المذهب الثالث: الفرق بين صور النهي وما أشبهها، وبين غيرها، فإن كانت صور نهي وما أشبهها، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن كانت غير صور نهي وما أشبهها، فالعبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.
ثم ختم الفصل بحثه ببيان أن واقع أصول القوانين الوضعية على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
١٠ - وقد بدا لنا في أثناء البحث في هذا الموضوع مقترحات نتقدم ببعضها فيما يلي:
أولا: أن السبب عند الأصوليين له من الأهمية ما يجعله حقيقا بأن يدرس بصفة مستقلة في كتاب مستقل أيضا.
ثانيا: أنه يتعين على الحكومات الإسلامية تكوين هيئات علمية لتحقيق هذا التراث الضخم في علم أصول الفقه الإسلامي، الذي مازال حبيس خزائن الكتب، قابعا في أوراقه الأصلية، لم تهيأ له الوسائل ليأخذ طريقه إلى دور الطباعة. كما يتعين عليها طباعة ما يستحق الطبع – وما أكثره – مما تم أو يتم تحقيقه من هذه المخطوطات. كما يتعين عليها إعادة طبع ما نفد مما طبع من نفائس هذا الفن.
ويتعين عليها أيضا تكوين هيئات علمية للإشراف على ما ينشره الباحثون المحدثون، لتلافي ما يقع فيه من أخطاء، وتقويمه التقويم الصحيح الذي به يعرف استحقاقه للنشر أو عدمه.
وإني لمتفائل بأن هذه الهيئات العلمية، ستحد من هذا الخلط العجيب في المباحث التي نشاهدها فيما ينشر، ومن هذه السرقات التي صارت عادة سيئة يحترفها بعض الباحثين.
ثالثا: ينبغي أن تفهرس مؤلفات العلماء السابقين فهرسة حديثة تكشف كل محتويات ما في الكتاب. كما ينبغي أن يقوم الباحثون المحدثون بذلك فيما ينشرونه من بحوث.
رابعاً: الاهتمام بالموضوعات التي تبين سماحة الشريعة ويسرها، ومراعاتها للمصالح، وكمالها، وخلودها، ونحو ذلك، وتشجيع الباحثين للكتابة فيها.
خامساً: ينبغي أن تكون البحوث المقررة للقواعد، مقرونة بالتطبيق عليها بما يندرج تحتها من مسائل، إذ المقصود منها معرفة أحكام هذه المسائل، حيث هي التي يحتاج إليها العامل في عمله.
سادسا: أوصي بإعادة طباعة ثلاثة كتب هي: الموافقات للشاطبي، والفروق للقرافي، وكشف الأسرار لعبدالعزيز البخاري، وأن تكون هذه الطباعة قائمة على الأصول الفنية للطبع، ولاسيما الفروق وكشف الأسرار، حيث يفقدان في طباعتهما الموجودة بأيدينا الأصول الفنية أكثر مما يفقدها كتاب الموافقات.
كما أوصي بفهرسة هذه الكتب الثلاثة فهرسة حديثة تكشف كل محتوياتها.
وأوصي أيضا بتعاهد الجامعات والمعاهد بدراستها والرجوع إليها.
سابعا: والمعاني الأصولية شديدة التأثر، فهي تتأثر بأدنى تحريف أو تصحيف في عبارة أو كلمة، وهو ما يعانيه الباحثون عند الاطلاع على كتب الأصول، وهذا التحريف أو التصحيف أو نحوهما راجع – بعد تحقيق الكتاب – إلى الأخطاء التي يرتكبها عمال الطباعة، وهذا جدير بالاقتراح بألا تمس هذه الكتب إلا أيد مدربة تدريبا ممتازا على أصول الطباعة الفنية.
وبهذا نتلافى ما يمكننا تلافيه من أخطاء، ونخرج للباحثين كتبا خالية مما يعانون فيها بسببه.
والحمد لله أولا وأخيرا.