للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٩ - تلك الفصول السابقة كانت تسجل أبحاثا في السبب، بمعنى كونه وصفا ظاهرا منضبطا، دل الدليل السمعي على كونه معرفا لحكم شرعي، سواء كانت المناسبة بينه وبين الحكم ظاهرة، تدركها عقولنا، أم غير ظاهرة، لا تدركها عقولنا.

وحيث كان السبب في اصطلاح الأصوليين معنى آخر غير هذا، وذلك هو الداعي إلى الخطاب على طريق الورود، لا على طريق الوجوب والتأثير، وهو ما يتحقق في ورود اللفظ العام بناء على سبب خاص.

حيث كان الأمر كذلك، فإننا نجد الفصل الثامن ينقلنا إلى بحث هذا المعنى للسبب في دائرة ما يتحقق فيه، ويسمه بتخصيص العام بالسبب الخاص.

وقد مهد لذلك ببيان معنى العام والتخصيص في اللغة والاصطلاح.

ثم ذكر أن لورود اللفظ العام بناء على سبب خاص أربع حالات:

الحالة الأولى: أن يخرج العام مخرج الجزاء للسبب الذي تقدمه.

الحالة الثانية: أن يكون اللفظ العام غير خارج مخرج الجزاء للسبب الذي تقدمه، ولا يستقل بنفسه، أي لا يفهم بدون ما تقدمه من السبب.

الحالة الثالثة: أن يستقل العام بنفسه، أي يفهم معناه بدون ما تقدمه من السبب، ولكنه خرج مخرج الجواب، وهو غير زائد على مقدار الجواب.

وقد وضحها بالأمثلة، وبين حكمها. فذكر أن الأولى يختص العام فيها بسببه. وذكر الخلاف في الثانية، مبطلا ما حكاه ابن ملك والعضد من الاتفاق على أن العام فيها يختص بسببه، لكنه انتهى إلى ترجيح القول بأن العام فيها يختص بسببه.

كما ذكر أن الحالة الثالثة تحتمل اختصاص العام فيها بسببه، كما تحتمل عدم اختصاصه به.

أما الحالة الرابعة: فهي أن يستقل العام بنفسه – أي يفهم بدون ما تقدمه من السبب – ويكون زائدا على مقدار الجواب.

وبين أن هذه الحالة، لا يخلو الأمر فيها من أن يكون العام أعم من السبب في غير ذلك الحكم، أو أن يكون أعم منه في ذلك الحكم لا غير.

فأما العام الذي هو أعم من السبب في غير ذلك الحكم، فقد اتفق العلماء على أن العبرة فيه بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وأما العام الذي هو أعم من السبب في ذلك الحكم لا غير، فإنه لا يخلو من حالة واحدة من أربع حالات: إما أن يوجد قرينة تدل على التعميم. أو يوجد قرينة تدل على التخصيص. أو لا يوجد شيء من هاتين القرينتين، لكن المتكلم نوع الجواب، دون قصد لمعنى ما جاء زيادة على مقدار الجواب. أو لا يوجد شيء من ذلك مطلقا.

فأما الحالة الأولى، وهي ما إذا وجد قرينة تدل على التعميم، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. بلا خلاف كما ذكره بعض العلماء.

وأما الحالة الثانية، وهي ما إذا وجد قرينة تدل على التخصيص، فإن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.

وأما الحالة الثالثة، وهي ما إذا نوى المتكلم الجواب، دون قصد لمعنى ما جاء زيادة على مقدار الجواب فإنه يدين – أي يصدق – فيما بينه وبين الله تعالى، وتصير تلك الزيادة للتوكيد، لكنه لا يدين قضاء.

وبهذا تكون العبرة بخصوص السبب، لا بعموم اللفظ، ديانة لا قضاء.

وأما الحالة الرابعة، وهي أن يكون هذا العام الذي هو أعم من السبب في ذلك الحكم لا غير، خاليا من قرينة تدل على التعميم، ومن قرينة تدل على التخصيص، ولم يكن المتكلم به ناويا الجواب، فهي محل خلاف بين العلماء، هل العبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أو العبرة فيها بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.

وقد عرض هذا الفصل هذين القولين، وذكر من قال بهما وأدلة كل فريق وما يرد عليه من مناقشة والثمرة المترتبة على هذا الخلاف.

وقد كانت النتيجة التي انتهى إليها، رجحان مذهب القائلين بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

<<  <  ج: ص:  >  >>