للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن ثم فإن ابن تيمية يعتبر الأمة مصدر السلطة من وجهة نظر خاصة رغم أن تفكيره يسير في أفق الدين إلا أنه بعيد كل البعد عن التفكير الديموقراطي، ورغم أن نظريته السياسية تؤدي إلى القول بنظرية القهر والغلبة إلا إنه لم يقل بالاستبداد الفردي، لأن الأمة تتولى ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاطبة وهي مقصود الولاية الإسلامية.

ومن هنا فإن الأمة مصدر من مصادر السلطة بينما السلطة في يد الحاكم في وجهة نظر الاستبدادية.

وإذا كان ابن تيمية قد قال بأن الأمة الإسلامية هي خير الأمم، فإنه لم ينظر إلى خيرية هذه الأمة على أنها ساكنة ثابتة في كل العصور، لذلك فإن هذه الخيرية تأخذ في التراجع على الدوام، لكن هذا التراجع لا ينسحب على كل طوائف الأمة، بل على كل من خالف أهل الحديث وهي الفرقة الناجية عنده. لأن هذه الطائفة ـ أي أهل الحديث ـ هي الحافظة للإسلام والرسالة عندما تغترب في الأمة.

ولا يعني هذا أن ابن تيمية من القائلين بالنزعة النخبوية لأن التعمق في دراسة هذا المفهوم أظهر أنه من السعة والمرونة بحيث ينفي أي دلالة نخبوية.

فهذا المصطلح أي أهل الحديث لا يعني الطبقة الخاصة العالمة بالحديث النبوي، وإنما يعني الخاصة والعامة على السواء بشرط التمسك بالحديث النبوي فعلاً وعملاً بقدر الإمكان. ويرفض ابن تيمية التفرقة بين الخاصة والعامة المنتمين إلى أهل الحديث أو بين المجتهد والمقلد بالمعنى الذي عليه علماء أصول الفقه، حيث إن الاجتهاد عنده واجب على كل مسلم بحسب طاقته. كما يرفض ابن تيمية النزعة النخبوية لا سيما وأنه يفتح الباب أمام مشاركة الجماهير في الذات السياسية.

وقد كشف البحث أيضاً عن السمات الواقعية للفكر السياسي عند ابن تيمية، ولكنه كشف أيضاً عن هذه الواقعية بأنه تتأصل في طوباوية دفينة، فبما أن الخلافة تستلزم نظاماً مثالياً لا يمكن تحقيقه في ضوء الظروف التاريخية المعاصرة له، فلا بد من العيش ـ في انتظار تحققها ـ داخل دولة شرعية أي دولة تطبق السياسة الشرعية.

ومن هنا نجد أن ابن تيمية يوجز الحديث عن الخلافة، ويطنب في السياسة الشرعية لأن مجرد التحليل العقلي يظهر أن الخلافة تعني في الحقيقة تجاوز الدولة. وهذا الأمر لا يمكن أن يحدث وفق الشروط التاريخية القائمة آنذاك.

ومن ثم فالحل المتاح هو محاولة إصلاح الدولة أو السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية.

والسياسة الشرعية هي السياسة المتطابقة مع القرآن والسنة لأن هناك سياسة غير شرعية، وهي التي تطابق شريعة غير شريعة القرآن والسنة، إذ إن هناك أنواعاً أخرى من الشرائع، مثل الشريعة المؤولة، والشريعة المبدلة، والشريعة بمعنى حكم الحاكم.

وإذا كان الفقهاء تحدثوا عن السياسة بوصفها متمحورة حول محور "الإمامة"، فإن ابن تيمية قد تحدث عنها بوصفها متمحورة حول محور "الشريعة المنزلة". ومن هذه الزاوية رأينا كيف يترتب على موقف ابن تيمية إزالة أي فوارق بين الإمام والجماهير فيما يتعلق بالشريعة، إذ إن الجميع أمامها وأمام الالتزام بها سواء.

ولقد ركز ابن تيمية على المقصود الكلي للسلطة. ومن ثم اتسم موقفه بالاستقلالية والتميز عن غيره من الفقهاء، الذين ركزوا في تحليلاتهم على تحقيق النظام الحاكم في معظم الأحيان.

لكن من جهة أخرى نرى "صمتاً" من ابن تيمية عن مبدأ الشورى في "السياسة الشرعية"، وإن كان مؤدى حريته في كتبه الأخرى لا سيما تلك التي تحدث فيها عن الأمة، لابد أن يفضي إلى مبدأ الشورى، لكن على مستوى ما ينبغي أن يكون، لا مستوى الأمر الواقع الذي انتهت تحليلات ابن تيمية بشأنه إلى نظرية "القهر والغلبة".

<<  <  ج: ص:  >  >>