والسياسة الشرعية عند ابن تيمية ليست منفصلة عن العقيدة، إذ إنه تقوم على مبدأ "الحاكمية لله"، ومن ثم فهي ذات اتصال وثيق بنظرية التوحيد. ولذا فقد حكم ابن تيمية بوجوب قتال كل من لا يتبع الشريعة في سياسة الدولة، الأمر الذي يوضح الأهمية القصوى للسياسة الشرعية في تفكير ابن تيمية السياسي. ولقد اعتبر ابن تيمية السياسة الاقتصادية جزءاً لا يتجزأ من السياسة، وقدم نظرية متكاملة بخصوص مصادر الأموال في الدولة وكيفية توزيعها واستغلالها وحدود سلطة الحاكم في هذا الشأن.
أما سياسة العقوبات فقد نظر إليها ابن تيمية بوصفها قائمة على مبدأ الردع، ويجب تنفيذها على الجميع بصرف النظر عن أوضاعهم السياسية أو الاجتماعية أو المالية. وفي هذا النطاق لم يخرج ابن تيمية عن حدود النصوص القرآنية والنبوية.
وقدم ابن تيمية فهماً جديداً لقضية الخروج على الشرعية أو قضية "البغي" التي هي عند الفقهاء تعني الخروج على الإمام، ويرى ابن تيمية أن هذا الحكم نشأ عن خلطهم بين قتال الخوارج أو الطائفة الممتنعة عن الشرائع، وبين قتال الفتنة بين المسلمين كما حدث بين علي ومعاوية، ومن خلال نقده لهذا الفهم عرض ابن تيمية محوراً جديداً هو الذي ينبغي أن يكون الفيصل في تعريف البغاة، وهو محور "الخروج على الشريعة"، وعلى هذا فإن الذي يستحق القتال هو الطائفة الممتنعة الخارجة عن شريعة من شرائع الإسلام أو كلها، وبذلك حاول ابن تيمية إعادة تأسيس قضية الشريعة للنظام الإسلامي أو النظام المنتسب للإسلام على أساس أن يكون محور السياسة هو الشريعة، وليس الإمام، عن طريقة مقارنة مفهوم الخروج على الإمام بمفهوم الخروج على الشريعة.
وفي الفصل الأخير تمت دراسة أثر ابن تيمية في الفكر السياسي اللاحق عليه، وملامح صورته في ذهن الباحثين المعاصرين في الفكر السياسي الإسلامي ومدى اقتراب أو بعد هذه الصورة عن ابن تيمية الحقيقي.
وكان من أخص الخصائص التي توصل إليها هذا الفصل هو الوجه الأيديولوجي لنظرية توحيد الإلهية عند ابن تيمية. وكشف أنها مرت في تأثيرها على المفكرين اللاحقين على ابن تيمية بثلاث مراحل أخذت في كل منها الصيغة المعبرة عن حاجات العصر ومشكلاته حتى تحولت ففي المرحلة الأخيرة من نظرية في الشعائر التعبدية إلى أيديولوجية سياسية ذات طابع جهادي.
ولقد عبر عن المرحلة الأولى ابن أبي العز الحنفي في كتابة "شرح العقيدة الطحاوية" الذي اتخذ فيه موقفاً نقدياً من علم الكلام رغم أن كتابه نفسه جاء حاملاً للروح الكلامية ويكشف هذا الكتاب عن تأثر كبير بأفكار ابن تيمية بلغ حد المسايرة في أسلوب التعبير. فقد كان يتخذ ابن أبي العز من ابن تيمية مرجعية كاملة في بيان العقائد السنية.
واتخذ التأثر بابن تيمية منحى جديداً في المرحلة الثانية التي تعتبر محمد ابن عبدالوهاب أبرز ممثليها. وقد تأثر ابن عبدالوهاب بجانب هام من جوانب فكر ابن تيمية. ذلك الجانب الذي يكافح الشك في العبادات وممارسة الشعائر والطقوس وأهمل الجانب الكلامي عند ابن تيمية الذي تأثر به ابن أبي العز الحنفي في المرحلة الأولى، وجاء تأثر ابن عبدالوهاب بذلك الجانب نتيجة الاستجابة لحاجات العصر وطبيعة البيئة حيث كانت مظاهر الشرك في التعبد سائدة في كل أنحاء الجزيرة العربية.
وفي المرحلة الثالثة التي تواكب العصر الحديث أخذت نظرية التوحيد عند سيد قطب بعداً سياسياً واضحاً. بل اصطبغت في كل جوانبها بالصبغة السياسية حيث تحولت من نظرية تكافح الشرك في التعبد إلى نظرية في الحاكمية السياسية.