للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالمبتدع إذا لم تتوفر فيه صفات القبول فلا شك أن روايته ترد، كالمبتدع الذي كفر ببدعته وتأكد خروجه عن الإسلام. قال ابن الصلاح: (اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفر ببدعته) (١) وهذا يعني أن الذي كفر ببدعته فليس في محل خلاف. وقال ابن كثير: المبتدع إن كفر ببدعته فلا إشكال في رد روايته (٢). وقال ابن حجر: لا يقبل صاحبها الجمهور (٣). وقال المعلمي: لا شبه أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام لم تقبل روايته لأن من شرط قبول الرواية الإسلام (٤). حتى حكى النووي الإجماع على أن روايته لا تقبل. وتعقبه السيوطي فقال: قيل دعوى الاتفاق ممنوعة فقد قيل أنه يقبل مطلقاً وقيل إن اعتقد حرمة الكذب (٥).

وقال ابن حجر بعد ذكر القولين: (والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة وقد تبالغ فتكفر مخالفيها فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف. فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة وكذا من اعتقد عكسه. فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه من روعه وتقواه فلا مانع من قبوله (٦).

وكذلك المبتدع الذي يستحل الكذب ولا تقبل روايته أبداً. قال أحمد شاكر: (وهذا القيد -أعني عدم استحلال- الكذب- لا أرى داعياً له، لأنه قيد معروف بالضرورة في كل راوٍ، فإنا لا نقبل رواية الراوي الذي يعرف عنه الكذب مرة واحدة فأولى أن نرد رواية من يستحل الكذب أو شهادة الزور) (٧).

فأما إذا توفرت فيه صفات القبول فما الحكم؟ الذي يظهر لي من خلال الأقوال المذكورة أن الجمهور قد اتفقوا على أن رواية المبتدع -إن لم يكن داعياً إلى بدعته- تقبل (٨).

وانفرد الجوزجاني وابن قتيبة فاشترط شرطاً آخر، وهو أن لا يكون في روايته- أي المبتدع حتى غير الداعية- ما يؤيد بدعته. قال الجوزجاني: (ومنهم زائغ عن الحق -أي عن السنة- صادق اللهجة فليس فيه حيلة إلا أن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكراً إذا لم تقو به بدعته) (٩).


(١) علوم الحديث (ص ١٠٣).
(٢) اختصار علوم الحديث لابن كثير (ص ٩٩).
(٣) نزهة النظر (ص ٥٢).
(٤) التنكيل (١/ ٤٢).
(٥) تدريب الراوي (١/ ٣٢٤).
(٦) نزهة النظر (ص ٥٢).
(٧) الباعث الحثيث (ص ١٠٠).
(٨) أما قولهم برد رواية المبتدع الداعية فقد اعترض عليه. قال ابن كثير: (وقد قال الشافعي أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. فلم يفرق الشافعي في هذا النص بين الداعية وغيره. ثم ما الفرق في المعنى بينهما. وهذا البخاري قد خرج لعمران بن حطان الخارجي مادح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي. وهذا من أكبر الدعاة إلى البدعة. والله أعلم. اختصار علوم الحديث (ص ١٠٠).
قال الخطيب: (إنما منعوا أن يكتب عن الدعاة خوفاً أن تحملهم الدعوة إلى البدعة والترغيب فيها على وضع ما يحسنها). الكفاية (ص ٢٠٥) وذكر نحوه ابن حجر (نزهة النظر ص ٥٢) والسيوطي تدريب الراوي (١/ ٣٢٥) ومثل هذا لم تثبت له العدالة أصلاً فلا داعي لهذا القيد أيضاً.
(٩) نزهة النظر (ص ٥٣).
وعلق عليه ابن حجر فقال: (وما قاله متجه لأن العلة التي لها رد حديث الداعية واردة فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولو لم يكن داعية. والله أعلم).
وقد سبق عن ابن حجر ما يخالف هذا كما سيأتي.

وقد ناقش الجوزجاني الشيخ عبد الرحمن المعلمي بما ملخصه: إن الجوزجاني نفسه مبتدع منحرف عن علي وأصحابه ولهذا فهو شديد النقد في أهل الكوفة وهو مولع بالطعن في المتشيعين ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم. فإن في الكوفيين جماعة من جلة من الذين اتفق أئمة السنة على توثيقهم. فأراد الجوزجاني أن يتخلص من مروياتهم فيما يتعلق بفضائل أهل البيت. التنكيل (١/ ٤٥، ٤٦، ٤٧).
ثم وفقني الله لدراسة (حياة الإمام الجوزجاني ومنهجه في الجرح والتعديل) بتفصيل وتبين لي أن ما يتهم به هذا الإمام من النصب لم يثبت عنه وأنه لا يرى ترك رواية المبتدع إذا وافقت بدعته مطلقاً بل بشروط لا يختلف فيها عن بقية الأئمة: وقد ذكرت كل ذلك في كتابي (الإمام الجوزجاني ومنهجه في الجرح والتعديل مع تحقيق كتابيه الشجرة في أحوال الرجال، وأمارات النبوة) وقد طبع في عام ١٤١١هـ فالحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.

<<  <  ج: ص:  >  >>