للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التزام هذا المنهج فيه اعترافٌ حقيقي بأن الله تعالى أكمل الدين، وأتم النعمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وكشف الغمة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، وأن الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم حواريو الرسول صلى الله عليه وسلم، وورثته في العلم والإيمان، وحفظة الله تعالى في عباده، أقاموا الدين علماً وعملاً، وبلغوه لفظاً ومعنى، وهذا وإن كان واضحاً في كل مسائل الديانة إلا أنه في مسائل الاعتقاد أشد وضوحاً، وأعظم رسوخاً، إذ معرفة الاعتقاد (أصل الدين)، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟!.

ومن المحال -أيضاً- أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيءٍ حتى الخراءة، وقال: (تركتكم على المحجةٍ البيضاءٍ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) ... ماحالٌ على تعليمهم كل شيءٍ لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم، في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام، ثم إذا كان قد وقع ذلك منه: فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب: زائدين فيه أو ناقصين عنه ... ) (١).

النتيجة الثانية: بيان ثبوت العصمة للشارع:

الالتزام بهذا المنهج يفيد إثبات العصمة للشارع الحكيم، بحيث لا يجوز الاستدراك عليه، وذلك بعد أن تقرر بالأدلة والبراهين اليقينية أن ليس في الشرع ما يخالف مقتضيات العقول الصحيحة، كما أنه ليس في العقل الصحيح ما يخالف نصاً صحيحاً صريحاً من نصوص الكتاب والسنة؛ بل كل ما يظن أنه يخالف الشرع من العقل فيمكن إثبات فساده بعقلٍ صحيح يبين أن تلك المخالفة مجرد ظن وتوهم.

وعليه، فيجب النظر إلى الشريعة بعين الكمال لا بعين النقصان واعتبارها اعتباراً كلياً في العقائد والعبادات والمعاملات، وعدم الخروج عنها البتة؛ لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عماية، كيف وقد ثبت كمالها وتمامها فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق، المنحرف عن جادة الصواب إلى بنيات الطرق، وهذا هو الذي أغفله المبتدعون فدخل عليهم بسببه الاستدراك على الشرع (٢).

النتيجة الثالثة: التصديق بجميع نصوص الكتاب والسنة:

الالتزام بهذا المنهج يفيد التصديق بجميع نصوص الكتاب والسنة، والاستدلال بها مجتمعةً -مالم يكن بين بعضها تناسخ- لأنها خرجت من مشكاةٍ واحدة، وتكلم بها من وصف نفسه بكمال العلم وتمام الحكمة، ومن أصدق من الله قيلاً، فلا يجوز ضرب بعضها ببعض؛ لأن ذلك يقتضي التكذيب ببعض الحق، إذ أنه من باب معارضة حق بحق، وهذا يقتضي التكذيب بأحدهما أو الاشتباه والحيرة، والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق؛ قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) [الزمر: ٣٢، ٣٣] (فذم سبحانه من كَذَبَ أو كذَّب بحق، ولم يمدح إلا من صدَق وصدَّق بالحق، فلو صدق الإنسان فيما يقوله، ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره، لم يكن ممدوحاً، حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به، فأولئك هم المتقون) (٣).


(١) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ٥/ ٦، ٧.
(٢) انظر: الاعتصام للشاطبي ٢/ ٣١٠، ٣١١.
(٣) درء تعارض العقل والنقل ٨/ ٤٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>