عليه حيل بينه وبين دخول منزله، وكانت بيده ياقوته عظيمة فخبّأها عنده وخاطها في ثوب له ليلا، وسملت عيناه وطرح في أسواق بغداد، فمر به بعض الشعراء، فقال له: يا خصيب، إني كنت قصدتك من بغداد إلى مصر مادحا لك بقصيدة فوافقت انصرافك عنها وأحب أن تسمعها، فقال كيف بسماعها وأنا على ما تراه؟ فقال إنما قصدي سماعك لها، وأما العطاء فقد أعطيت الناس وأجزلت جزاك الله خيرا قال: فافعل فأنشده:
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفّقا، فكلاكما بحر! «١٦٩»
فلما أتى على أخرها قال له: افتق هذه الخياطة، ففعل ذلك، فقال له: خذ الياقوتة فأبى فأقسم عليه أن ياخذها فأخذها وذهب بها إلى سوق الجوهريين، فلما عرضها عليهم، قالوا له: إن هذه لا تصلح إلا للخليفة، فرفعوا أمرها إلى الخليفة، فأمر الخليفة بإحضار الشاعر واستفهمه عن شأن الياقوتة فأخبره بخبرها فتأسف على ما فعله بخصيب، وأمر بمثوله بين يديه وأجزل له العطاء وحكّمه فيما يريد فرغب أن يعطيه هذه المنية، ففعل ذلك وسكنها خصيب إلى أن توفى وأورثها عقبه إلى أن انقرضوا.
وكان قاضي هذه المنية أيام دخولي إليها فخر الدين النّويري المالكي وواليها شمس الدين أمير خيّر كريم، دخلت يوما الحمام بهذه البلدة فرأيت الناس بها لا يستترون فعظم ذلك علي، وأتيته فأعلمته بذلك فأمرني أن لا أبرح وأمر بإحضار المكتريين للحمامات وكتب عليهم العقود أنه متى دخل أحد الحمام دون ميزر فإنهم يؤاخذون على ذلك واشتد عليهم أعظم الاشتداد، ثم انصرفت عنه.
وسافرت من منية ابن خصيب إلى مدينة منلوي «١٧٠» وهي صغيرة مبنية على مسافة ميلين من النيل، وضبط اسمها بفتح الميم واسكان النون وفتح اللام وكسر الواو، وقاضيها الفقيه شرف الدين الدّميري بفتح الدال المهمل وكسر الميم الشافعي، وكبارها قوم يعرفون ببني فضيل بنى أحدهم جامعا انفق فيه صميم ماله. وبهذه المدينة إحدى عشرة معصرة للسكر ومن عوائدهم أنهم لا يمنعون فقيرا من دخول معصرة منها فيأتي الفقير بالخبزة