لقد اقترن الحديث عن ماركو بولو البندقي بالحديث عن ابن بطوطة الطنجي لدى كل الذين اهتموا بالرحالة، وخاصة عند علماء الغرب، «١» وقد كان من حقّهم أن يفعلوا، فإن الأول هو الذي قصد- قبل نحو من ستين سنة من تحرك ابن بطوطة، بلاد الشرق الأقصى وسجلت مذكراته التي كانت محل تعليق واسع ...
لكنّ الملاحظ أنّ رحلة ابن بطوطة اتسع فضاؤها أكثر مما كان الأمر بالنسبة لرحلة ماركو بولو علاوة على الحصيلة العلمية التي كانت تختلف من الواحد إلى الآخر ...
وهكذا فإذا كان ابن بطوطة قد حقق رحلته وحيدا، وإذا كان محرر رحلته ابن جزي كان يقتصر على إضافات محدودة وموثقة، فإن محرر رحلة ماركو بولو روستيشيلو (RUSTICHELLO) كان يضيف من خياله على ما لاحظه بعض المعقّبين وخاصة عند الحديث عن الصين «٢» ... يضاف إلى كل هذا أن رحلة الأول اقتصرت على آسيا دون افريقيا وأوربا ...
ومعنى هذا أن الجمهور الذي عرف عن الرحالة المغربي كان أوسع من جمهور ماركوبولو.
وفي معرض اعتزاز ابن بطوطة بطول نفسه في الرحلة، واتساع رقعة منهاجه في التجوال ذكر أنه يفوق السائح المصري الشيخ عبد الله الذي لم يدخل لا إلى الصّين ولا إلى جزيرة سرنديب ولا المغرب ولا الأندلس ولا بلاد السودان. وأعتقد أنه لو قدر لابن بطوطة أن يجتمع بماركو بّولو لعلّق بمثل ذلك التعليق، إذ إننا عرفنا أن الأراضي التي زارها الرحالة المغربي كانت تفوق كثيرا وكثيرا ما قطعه ماركو بّولو.
وقد تفوق رحالة طنجة على رحالة البندقية بشيء أهمّ وهو أنه استطاع أن يمتزج مع سكان البلاد التي وصلها عن طريق المصاهرات، وعن طريق الوظائف السامية التي تقلدها والاتصالات التي كان يجريها مع مختلف الأوساط، الأمر الذي كان يرضي فضوله وتطلعاته المتنوعة والمتجددة في ذات الوقت. ويكفي- لكي نعرف حجم الرجلين ونعرف مع هذا مدى رصيد الجانب المعرفي لكلا العملين- يكفي أن نقوم بجرد لعدد الأسماء الجغرافية التي وردت عند هذا وذاك، وأن نعدّ الأعلام الشخصية التي جاءت في مذكرات الأول والثاني، يكفي ذلك لنخلص إلى الإشادة بذاكرة الرحالة المغربي التي استطاعت أن تختزن كل تلك الأسماء جغرافيا وانسانيا، وأن تحتفظ بشكلها وضبطها ومواقعها بالرغم من العدوان الذي وقع على مذكراته. إن كل ذلك الاستظهار وذلك الاستيعاب كان فوق طاقة البشر حقّا. وحتى جانب الاتحاف والإطراف في كلا الرحلتين كان يبرز، دون تردد، تفوق ابن بطوطة. وقد مر ويمر بنا