وأحب أن أثير الانتباه هنا إلى عنصر في الرحلة كاف وحده للتأكيد على جدّيتها وصدق أخبارها، ويتعلق الأمر بالنقوش التي كان يقف عليها مكتوبة على لوحة خشبية أو قطعة من حجر أو رخام، فكان يسجلها ويحفظها، وقد أمست بالنسبة إلينا اليوم بمثابة وثيقة حية تؤكد ما كان يرويه الرجل قبل نحو من سبعة قرون! فإن المؤرخ قد يتأثر بما حواليه وبمن حواليه بينما تبقى الوثيقة المعاصرة أمينة شاخصة. ولقد لذّ لي أن أهتم بهذا الجانب من الرحلة وأن أقف بنفسي على مروياتها باعتبارها، كما قلت، دليلا لا يقبل الطعن سيما وبعض تلك النقوش ما يزال شاخصا للعيان.
وهكذا فقد قرأ ابن بطوطة على شاهد قبر الشيخ أبي الحسن الشاذلي اسمه ونسبه متصلا إلى الحسن بن علي وفاطمة الزهراء عليهما السلام.
وقد كان فيما اكتشفه من خطوط ما قرأه على قبرية فاطمة بنت الحسين بن علي:
" هذا قبر أمّ سلمة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه" بينما قرأ في لوح آخر:" صنعه محمد بن أبي سهل النقاش بمصر" وتحت ذلك ثلاثة أبيات ...
وعند ما زار ابن بطوطة قبر النبي هود عليه السلام شرقيّ مدينة تريم في حضرموت لاحظ أن القبر مكتوب عليه:" هذا قبر هود بن عابر صلى الله عليه وسلم"، وهو ما يعتمده الحضارمة إلى اليوم.
وفي هذا الإطار ما قرأه على قبرية سعد بن عبادة، وما سجله وهو بمكة عن معالمها التاريخية مما يعتبر فيه ابن بطوطة حجة، سيّما بعد اختفاء تلك الآثار، هذا إلى ما علق بذاكرة الرّحالة مما قرأه في دمشق وفي عسقلان ومدينة البصرة وبغداد وسوريا.
ومن المهمّ أن نسمع ابن بطوطة- وهو الحريص على توثيق تلك المنقوشات- نسمعه يتحسر لضياع مذكّراته على نحو ما وقع بالنسبة لمقيّدات الهروي أثناء احتلال الروم للأراضي المقدسة «١» ! ويخبرنا بأنه كتب على قبر البخاري:" هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري وقد صنف من الكتب" كذا وكذا ... وكذلك كتبت على قبور علماء بخاري أسماؤهم وأسماء تصانيفهم." وكنت قيدت من ذلك كثيرا- يقول ابن بطوطة- وضاع مني في جملة ما ضاع لمّا