وأكثر أهل هذه المدينة رهبان ومتعبدون وقسّيسون وكنائسها لا تحصى كثرة وأهل المدينة من جنديّ وغيره صغير وكبير يجعلون على رؤوسهم المظلّات الكبار شتاء وصيفا والنساء لهنّ عمائم كبار.
ذكر الملك المترهّب جرجيس
وهذا الملك ولّى الملك لابنه وانقطع للعبادة، وبنى مانستارا كما ذكرناه خارج المدينة على ساحلها، وكنت يوما مع الرومي المعيّن للركوب معي فإذا بهذا الملك ماشيا على قدميه وعليه المسوح وعلى رأسه قلنسوة لبد وله لحية بيضاء طويلة ووجه حسن عليه أثر العبادة وخلفه وامامه جماعة من الرهبان، وبيده عكاز، وفي عنقه سبحة فلما رءاه الرومي نزل، وقال لي: انزل! فهذا والد الملك، «١٠٧» فلمّا سلّم عليه الرومي سأله عنّي، ثم وقف وبعث عنّي فجئت إليه فأخذ بيدي، وقال لذلك الرومي، وكان يعرف اللسان العربي: قل لهذا السراكنو «١٠٨» ، يعني المسلم، أنا أصافح اليد التي دخلت بيت المقدّس والرّجل التي مشت داخل الصخرة والكنيسة العظمى التي تسمّى قمامة وبيت لحم، وجعل يده على قدمي ومسح بها وجهه فعجبت من اعتقادهم فيمن دخل تلك المواضع من غير ملّتهم! ثم أخذ بيدي ومشيت معه فسألني عن بيت المقدس ومن فيه من النصارى، وأطال السؤال، ودخلت معه إلى حرم الكنيسة الذي وصفناه آنفا ولمّا قارب الباب الأعظم خرجت جماعة من القسيسين والرهبان للسلام عليه، وهو من كبارهم في الرهبانيّة، ولما رءاهم أرسل يدي، فقلت له: أريد الدخول معك إلى الكنيسة، فقال للترجمان: قل له لابد لداخلها من السجود للصّليب الأعظم فإنّ هذا ممّا سنّته الأوائل ولا يمكن خلافه! فتركته ودخل وحده ولم أره بعدها.
[ذكر قاضي القسطنطينية.]
ولمّا فارقت الملك المترهب المذكور دخلت سوق الكتّاب فرءاني القاضي فبعث إليّ أحد