ولم يعلمها بشيء مما جرى، وأقام عندها نصف شهر، وأظن أن بلده أسفي، ثم خرج إلى الجبانة فوجد الفقير صاحبه، فقال له: كيف أنت؟ فقال: يا سيدي إني اشتقت إلى رؤية الشيخ نجم الدين، وكنت خرجت على عادتي وغبت عنه هذه الأيام، وأحب أن تردّني إليه، فقال له: نعم! وواعده الجبّانة ليلا، فلما وافاه بها أمره أن يفعل كفعله في مكة، شرّفها الله، من تغميض عينيه والإمساك بذيله، ففعل ذلك فإذا به في مكّة، شرفها الله، وأوصاه أن لا يحدّث نجم الدين بشيء مما جرى، ولا يحدّث به غيره.
فلما دخل على نجم الدين، قال له: أين كنت يا حسن في غيبتك؟ فأبى أن يخبره فعزم عليه فأخبره بالحكاية، فقال: أرني الرجل! فأتى معه ليلا وأتى الرجل على عادته، فلما مرّ بهما، قال له: يا سيدي، هو هذا! فسمعه الرجل فضرب بيده على فمه وقال: أسكت أسكتك الله فخرس لسانه، وذهب عقله، وبقى بالحرم مولها يطوف باللّيل والنهار من غير وضوء ولا صلاة، والناس يتبركون به ويكسونه، وإذا جاع خرج إلى السوق التي بين الصفا والمروة فيقصد حانوتا من الحوانيت فيأكل منه ما أحبّ، لا يصدّه أحد ولا يمنعه، بل يسرّ كلّ من أكل له شيئا، وتظهر له البركة والنّماء في بيعه وربحه، ومتى أتى السوق تطاول أهلها بأعناقهم إليه كلّ منهم يحرص على أن يأكل من عنده لما جربوه من بركته، وكذلك فعله مع السقّائين متى أحب أن يشرب، ولم يزل دأبه كذلك إلى سنة ثمان وعشرين، فحج فيها الأمير سيف الدّين يلملك فاستصحبه معه إلى ديار مصر فانقطع خبره نفع الله تعالى به.
[ذكر عادة أهل مكة في صلواتهم ومواضع أئمتهم]
فمن عادتهم أن يصلّى أول الأئمة إمام الشافعية، وهو المقدم من قبل أولي الأمر «٢٠٩» وصلاته خلف المقام الكريم: مقام إبراهيم الخليل عليه السلام في حطيم له هنالك بديع، وجمهور الناس بمكة على مذهبه، والحطيم: خشبتان موصول ما بينهما بأذرع شبه السلّم، تقابلهما خشبتان على صفتهما، وقد عقدت على أرجل مجصّصة، وعرض على أعلى الخشب خشبة أخرى فيها خطاطيف حديد، يعلّق منها قناديل زجاج، فإذا صلى الإمام الشافعي صلّى بعده إمام المالكية في محراب قبالة الركن اليماني، ويصلي إمام الحنبلية معه في وقت واحد مقابلا ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، ثم يصلي إمام الحنفية قبالة الميزاب المكرّم تحت حطيم له هنالك ويوضع بين أيدي الأئمة في محاريبهم الشّمع، وترتيبهم هكذا في الصلوات الأربع.