عندما يذكر التاريخ المعالم الحضارية التي شيدها السّلطان أبو عنان (٧٥٩ هـ- ١٣٥٨ م) بن السلطان أبي الحسن بن السلطان أبي سعيد بن السلطان يعقوب بن عبد الحق مؤسس دولة بني مرين، وعند ما يذكر التاريخ مجالسه العلمية التي كانت أشبه ما تكون بدور الحكمة بالأمس أو بالأكاديميات كما نسميها اليوم، وعند ما يذكر التّاريخ الأصداء العظيمة التي تركها أبو عنان على الساحة الدّولية بما وقّعه من اتفاقيات وما أبرمه من معاهدات، وعند ما تتحدث مصادر التاريخ عن أسطوله الذي كان يقوم بنفسه على بنائه، وعند ما نذكر حسّه السياسي المرهف وحزمه في ممارسة الحكم وعند ما نذكر هوايته الرياضية المفضلة: القنص بالصّقر ...
عند ما يذكر الناس كلّ هذا فإن من واجبهم أن يذكروا إلى جانب تلك المناقب والمحامد عملا آخر لا يقلّ- إن لم نقل إنه ينافس- عن تلك الأعمال أو يفوقها، ذلك العمل هو الأمر الذي أصدره- وهو بفاس- بانتساخ رحلة ابن بطوطة وجعلها في متناول القراء بالرغم مما ظهر من بعض معاصري الرحالة المغربي من أمثال ابن خلدون الذين شككوا في مصداقية الرحلة وقصدوا الوزير ابن ودرار في محاولة لكتم أنفاسها! لقد تأكد أن القرار الذي اتخذه العاهل المغربي كان قرارا عظيما وائدا، وكان وراء تخليد اسم أبي عنان بالرغم من أن حكمه لم يتجاوز عشر سنوات!! فها نحن اليوم نعيش مع اهتمام رجال الفكر كلّهم سواء كانوا عربا أو عجما ... بهذه الرحلة التي كانت بالفعل حدثا فريدا من نوعه، حدثا ربط تاريخ المغرب لأول مرة بتاريخ بقية العالم، بما في ذلك الجهات النائية، وبما في ذلك بعض الجهات التي لم تكن تدين بالإسلام. وهكذا وجدنا أن الرحلة تمثّل جسرا متينا يجسد الحوار بين الحضارات في دول المعمور سواء في القارة الافريقية أو الأسيوية أو الأروبية. ومن ثمت كان لها بعد دولي واسع أعطى للعاهل المغربي فرصة ثمينة لكي يخلد اسمه عبر التاريخ كنصير لحرية الفكر وكمنقذ للتراث ومشجع للإبداع، ويكفي أن نعرف أن الفكر الحديث يعتبر أن ابن بطوطة ثالث ثلاثة رفعوا اسم المغرب عاليا بعد ابن رشد وابن خلدون وأنه أي ابن بطوطة أكبر رحالة في التاريخ البشري كله على حد قول أندري ميكيل «١» !! وقد استمعنا إلى الكاتب الفرنسي الأكاديمي جان دور ميصون (J.D'ormesson)
(مارس ١٩٩٥) أثناء حفل تكريمي حاشد" إشادة كبيرة وعظيمة وعطرة بمركز ابن بطوطة المؤرخ والجغرافي والاجتماعي الذي كان ممّن" استطاعوا أن يؤثروا عليّ- يقول دورميطون- بمفاتن إبداعهم، الأمر الذي لم يظهر أثره فقط على ما كتبته ولكن ظهر فيما كنت أستوحيه