حول مسجد الخيف «٢٣٣» ، والأمر في ذلك واسع، ولما انتهى الناس إلى منى بادروا لرمي جمرة العقبة، ثم نحروا وذبحوا، ثم حلقوا وحلّوا من كل شيء إلا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الإفاضة، ورمي هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر، ولما رموها توجه أكثر الناس بعد أن ذبحوا وحلقوا إلى طواف الإفاضة، ومنهم من أقام إلى اليوم الثاني، وفي اليوم الثاني رمى الناس عند زوال الشمس بالجمرة الأولى سبعة حصيات، وبالوسطى كذلك، ووقفوا للدعاء بهاتين الجمرتين اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كان اليوم الثالث تعجل الناس الانحدار إلى مكة، شرّفها الله بعد أن كمل لهم رمي تسع وأربعين حصاة، وكثير منهم أقام اليوم الثالث بعد يوم النحر حتى رمي سبعين حصاة.
[ذكر كسوة الكعبة]
وفي يوم النّحر بعثت كسوة الكعبة الشريفة من الركب المصري إلى البيت الكريم، فوضعت في سطحه، فلما كان اليوم الثالث بعد يوم النحر أخذ الشّيبيون في إسبالها على الكعبة الشريفة، وهي كسوة سوداء حالكة من الحرير مبطنة بالكتان، وفي أعلاها طراز مكتوب فيه بالبياض: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما الآية، وفي سائر جهاتها طرز مكتوبة بالبياض فيها آيات من القرآن، وعليها نور لائح مشرق من سوادها.
ولما كسيت شمّرت أذيالها صونا عن أيدي الناس، والملك الناصر هو الذي يتولى كسوة الكعبة الكريمة ويبعث مرتبات القاضي والخطيب والأئمة والمؤذنين والفراشين والقومة وما يحتاج له الحرم الشريف من الشمع والزيت في كلّ سنة.
وفي هذه الأيام تفتح الكعبة الشريفة كلّ يوم للعراقيين والخراسانيين وسواهم ممن يصل مع الركب العراقي، وهم يقيمون بمكة بعد سفر الركبين: الشامي والمصري أربعة أيام، فيكثرون فيها الصدقات على المجاورين وغيرهم. ولقد شاهدتهم يطوفون بالحرم ليلا فمن لقوه في الحرم من المجاورين أو المكيين أعطوه الفضّة والثياب، وكذلك يعطون للمشاهدين الكعبة الشريفة، وربما وجدوا إنسانا نائما فجعلوا في فيه الذهب والفضة حتى يفيق! ولما قدمت معهم من العراق سنة ثمان وعشرين «٢٣٤» فعلوا من ذلك كثيرا، وأكثروا الصدقة حتى رخص سوم الذهب بمكة، وانتهى صرف المثقال إلى ثمانية عشر درهم «٢٣٥» نقرة لكثرة ما تصدّقوا به من الذهب.