يتعبد فيه، فتوجهت إلى الغار، فرأيته على بابه وهو نحيف شديد الحمرة، عليه أثر العبادة ولا لحية له فسلّمت عليه فأمسك بيدي وشمّها، وقال للترجمان: هذا من طرف الدنيا كما نحن من طرفها الآخر!! ثم قال لي: لقد رأيت عجبا، أتذكر يوم قدومك الجزيرة التي فيها الكنيسة والرجل الذي كان جالسا بين الاصنام وأعطاك عشرة دنانير من الذهب؟ فقلت:
نعم! فقال: أنا هو! فقبّلت يده، وفكّر ساعة، ثم دخل الغار فلم يخرج إلينا، وكأنه ظهر منه النّدم على ما تكلّم به، فتعجبنا ودخلنا الغار عليه فلم نجده ووجدنا بعض أصحابه ومعه جملة بوالشت من الكاغد «٦٧» ، فقال: هذه ضيافتكم، فانصرفوا. فقلنا له: ننتظر الرجل، فقال:
لو أقمتم عشر سنين لم تروه، فإن عادته إذا إطلع أحد على سرّ من أسراره لا يراه بعده، ولا تحسب أنه غاب عنك بل هو حاضر معك، فعجبت من ذلك وانصرفت، فأعلمت القاضي وشيخ الاسلام وأوحد الدين السنجاري بقضيته، فقالوا: كذلك عادته مع من ياتي اليه من الغرباء ولا يعلم أحد من ينتحله من الأديان! والذي ظننتموه أحد أصحابه هو هو. وأخبروني أنه كان غاب عن هذه البلاد نحو خمسين سنة ثم قدم عليها منذ سنة، وكان السلاطين والأمراء والكبراء يأتونه زائرين فيعطيهم التّحف على أقدارهم، ويأتيه الفقراء كلّ يوم فيعطي لكل أحد على قدره، وليس في الغار الذي هو به ما يقع عليه البصر! وأنه يحدث عن السنين الماضية، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: لو كنت معه لنصرته، ويذكر الخليفتين عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب بأحسن الذكر ويثنى عليهما ويلعن يزيد ابن معاوية ويقع في معاوية.
وحدثوني «٦٨» عنه بأمور كثيرة، وأخبرني أوحد الدين السنجاري قال: دخلت عليه بالغار فأخذ بيدي فخيل لي أني في قصر عظيم وأنه قاعد فيه على سرير وفوق رأسه تاج وعن جانبيه الوصائف الحسان والفواكه تتساقط في أنهار هنالك وتخيّلت أني أخذت تفاحة لآكلها. فإذا أنا بالغار وبين يديه، وهو يضحك مني وأصابني مرض شديد لازمني شهورا فلم أعد إليه.
وأهل تلك البلاد يعتقدون أنه مسلم، ولكن لم يره أحد يصلي، وأما الصيام فهو صائم أبدا، وقال لي القاضي ذكرت له الصلاة في بعض الأيام، فقال لي: أتدري أنت ما أصنع؟
إن صلاتي غير صلاتك! وأخباره كلّها غريبة، وفي اليوم الثاني من لقائه سافرت راجعا إلى مدينة الزيتون، وبعد وصولي إليها بأيام جاء أمر القان بوصولي إلى حضرته على البر