للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن، فكان يورد في المجلس من حفظه نحو كرّاسين أو أكثر. وبقي يفسّر في سورة نوح عدّة سنين أيام الجمع.

وقال الذهبي في «معجم شيوخه» : شيخنا، وشيخ الإسلام، وفريد العصر، علما، ومعرفة، وشجاعة، وذكاء، وتنويرا إلهيا، وكرما، ونصحا للأمة، وأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر.

سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب، وخرّج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصّل ما لم يحصّله غيره، وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر وقّاد [١] إلى مواضع الإشكال ميّال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلّ من يحفظ ما يحفظ من الحديث معزوّا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضار له وقت إقامة الدّليل. وفاق النّاس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصّحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده. وأتقن العربية أصولا وفروعا، وتعليلا واختلافا. ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين. وردّ عليهم، ونبّه على خطئهم وحذّر، ونصر السّنّة بأوضح حجج وأبهر براهين، وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السّنّة المحضة، حتّى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التّقوى على محبته والدعاء له. وكبت أعداءه، وهدى به رجالا كثيرة من أهل الملل والنّحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبا، وعلى طاعته. وأحيا به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم خصوصا في كائنة التتار، وهو أكبر من أن ينبّه على سيرته مثلي، فلو حلّفت بين الرّكن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه. انتهى كلام الذهبي.

وكتب الشيخ كمال الدّين ابن الزملكاني تحت اسم «ابن تيميّة» : كان إذا سئل عن فنّ من العلم ظنّ الرائي والسّامع أنه لا يعرف غير ذلك الفنّ، وحكم أن أحدا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطّوائف إذا جالسوه استفادوا في


[١] لفظة «وقاد» لم ترد في «ذيل طبقات الحنابلة» (٢/ ٣٨٩) وهو المصدر الذي نقل عنه المؤلف.

<<  <  ج: ص:  >  >>