ثم تابعت رحلتي في عالم التراث، فأخرجت كتاب «إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين» لابن طولون محققا للمرة الأولى، وتبعه «عمدة الأحكام» للحافظ عبد الغني المقدسي، و «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي، و «شرح الأربعين النووية» ، فكان عملي في هذه الكتب على صغرها قد متّن صلتي بفن التحقيق، وجعلني أنطلق إلى آفاق بعيدة من التفكير في خدمة مصنفات أكبر منها حجما، وأبعد منها أثرا، فكان أن وقع اختياري على هذا الكتاب- «شذرات الذهب» - لجملة أسباب:
أولها: لأنه من كتب التاريخ، وهو الفن الذي أحببته منذ الصغر، وازداد حبّي له أثناء خدمتي لكتاب «إعلام السائلين» ، ومن ثم «الأمصار ذوات الآثار» .
وثانيها: لاحتوائه على تراجم مشاهير المحدّثين وغيرهم من أعيان الزمان، وأنا من المغرمين بدراسة سير الرجال، لما فيها من العبر والفوائد.
وثالثها: لكونه يؤرّخ بإيجاز لفترة زمنية طويلة تمتد لعشرة قرون، الأمر الذي يجعله من أفضل التواريخ المختصرة في نظري.
فعرضت رغبتي في خدمة الكتاب على والدي حفظه الله، وشرحت له رأيي بالكيفية التي يمكن أن يخرج الكتاب على أساسها، فأعجب بالفكرة، وشجعني على المضيّ في تنفيذها، فقلت له: إن انتقال فكرة تحقيق الكتاب إلى حيّز التنفيذ يتوقف على موافقتك على الإشراف على تحقيقه، ومراجعته، وتخريج ما يرد فيه من الأحاديث، فوافق حفظه الله على القيام بذلك، ومن ثم تفضل بالنظر في المنهج الذي وضعته لتحقيق الكتاب فأقرّه بعد مناقشة تناولت عددا من الفقرات فيه.
وكان من توفيق الله تعالى ورعايته، أن قيّض لهذا الكتاب ناشرا فاضلا، عمل في طبع كتاب الله عزّ وجلّ ونشره لفترة طويلة، وأسهم في انتشار عدد كبير من كتب التراث، هو الأستاذ علي مستو صاحب «دار ابن كثير» ، الذي قدّم لنا كلّ ما يمكن أن يسهم في ظهور الكتاب على أفضل وجه، جزاه الله تعالى خير الجزاء، وجعل تجارته رابحة في الدّنيا والآخرة.