لا يعلم بالتحديد الوقت الذي ابتدأ فيه وضع القواعد الفقهية؛ إلا أنني أرجح في الجملة أن القواعد المستنبطة من النصوص أسبق في الوضع من القواعد المستنبطة من المسائل المتشابهة؛ ووجه ذلك: أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة سابقة في الوجود للمسائل الفقهية.
وهناك قصة جرت بين الكسائي النحوي المتوفى سنة ١٨٩ هـ، ومحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة المتوفى سنة ١٨٩ هـ، وهي: أن الكسائي قال: لا أُسْأَلُ عن مسألة في الفقه إِلا أجبت عنها من قواعد النحو. فقال له محمد بن الحسن: ما تقول فيمن سها في سجود السهو، يسجد؟ قال: لا؛ لأن المُصَغَّرَ لا يُصَغَّر (١).
وهذه القصة تعطينا أن الالتفات إِلى القواعد وتخريج الفروع عليها كان موجودًا في منتصف القرن الثاني.
ولعل انشغال الفقهاء في القرون الأولى بالنظر في أحكام الحوادث الجديدة، التي وجدت مع التوسع في الفتح ومخالطة أقوام وبيئات جديدة، قد صرفهم عن العمل في تقعيد القواعد.
وبعد أن بدأت الأحوال في البلاد الإِسلامية تستقر تبع ذلك قلة الحوادث الجديدة، وكان بين أيدي الفقهاء رصيد ضخم من الجزئيات الفقهية، فبدأ بعض الفقهاء بإِعادة النظر في تلك الجزئيات، ومحاولة إِيجاد روابط بين المتشابه منها،
(١) انظر هذه القصة في: شذرات الذهب لابن العماد (١/ ٣٢١). وقد لفت النظرَ لها الباحثُ أحمد بن عبد الله بن حميد في ص (١١٥) من القسم الدراسي من رسالته.