وعلى المفسر أن يجعل هذا الأمر في ذهنه عند تفسيره ثم عليه وهو طبيب عقول أن يكون كطبيب الأجساد ينظر في مريضه ويشخص داءه ثم يصف له الدواء، وعلى المفسر أن ينظر إلى مجتمعه فيحدد أمراضه ويظهر مواطن ضعفه وتفككه وانحلاله ثم يصف له الدواء القرآني ... سواء كانت علله في العقيدة أو في السلوك.
كم يسرني ذلك المفسر الذي أراه يفسر الآية القرآنية ثم أراه يضرب الأمثلة من مجتمعه ـ في غير تشهير ـ ويلتمس لها العلاج القرآني وكم يسرني ذلكم المفسر الذي يرى عادة ذميمة في مجتمعه أو تحللاً أو إهمالاً لواجب أو انتشاراً لبدعة ... فلا يمر بآية هي علاج لهذا أو ذاك إلا ويربط بينهما ويشير إلى علاجها ويأمر به.
يهمل كثير من العلماء مسألة الربط أوالتشخيص الدقيق وهم يحسبون أن لدى مستمعيهم ـ كلهم ـ القدرة على الاستنتاج والتطبيق.
تجد المفسر مثلاً يتحدث عن الربا وتحريمه ويشرح آياته مفردة مفرَدة ومواطن البلاغة ومحاسن التعبير ويبلغ في ذلك شأواً، ثم ينتقل إلى آية أخرى بعدها وهو يحسب أنه قد أشبع الموضوع حقه، وما درى ذلك الرجل أنه أخذ جانباً وترك الآخر ... كان عليه ـ مثلاً ـ أن يضرب أمثلة للربا من مجتمعه فيشير نصاً إلى البنوك الربوية معاملاتها ومواطن الخطأ فيها ومواضع الربا وآثار ذلك في الاقتصاد ... كان عليه أن يعطي المثال المستقيم فيذكر البنوك الإسلامية وما يجب أن تتعامل به ولا ضير أن يذكر أسماءها وأنواع معاملاتها.
ستقولون ـ أيها الصحاب ـ أنه خرج عن التفسير فأقول على فرض أنه خرج أليس خروجه هذا أفضل من خروجه عنه إلى الأساليب البلاغية والمسائل اللغوية والتغني بحسن التعبير والوقوف عند معالم الجمال إن صح تسمية كل ذلك خروجاً!!
ثم إني لا أعتبر هذا ولا ذاك خروجاً عن التفسير إذا ناسب المقام، فإذا كان المقام مقام حديث مع العلماء والأدباء فليكن كذلك وإذا كان حديثاً موجهاً للعامة أو للإصلاح الاجتماعي فليكن بأسلوب آخر وبأهداف وطرق أخرى، ليوجه همه إلى تلكم القضايا الاجتماعية ويبسطها للناس فلا يجعل التفسير بمعزل عمن أنزل القرآن لإصلاحهم وإصلاح عقائدهم.
حين نزل القرآن الكريم أصلح كثيراً من البدع والمنكرات التي تحدث في مجتمع الجاهلية وخصها بالذكر فحرم وأد البنات والربا وشرب الخمر وعبادة الأوثان وما زال القرآن يقوم الأخلاق ... حتى النداء من وراء الحجرات ...
فما بال أقوام منا يهملون جانب الإصلاح الاجتماعي في تفسير القرآن الكريم ويظنونه ـ مخطئين ـ خروجاً بالتفسير عن حده.
إن الأمر هنا يختلف عن المناهج الأخرى، الأمر هنا يتطلب تفاسير عدة لا تفسيراً واحداً، حيث يقوم من كل بلد من بلاد العالم الإسلامي عالم عارف بأمراض مجتمعة يفسر القرآن فيعرض لها ويحذر من خبيثها ويحمد حسنها.
أقول هذا لأن العالم الإسلامي مترامي الأطراف .. مختلف العادات، وقد ينتشر في مجتمع من المنكرات ما لا وجود له في مجتمع آخر ... فقد يوجد الربا في بيئة ويستفحل ولا يكاد يوجد في أخرى، وقد تنتشر حانات الخمور ودور الرذيلة والملاهي وأندية القمار في بيئة ولا يعرفها آخرون، وقد ينتشر الاختلاط والتبرج والتعري والفسق والفجور في مجتمع ولا يعرفه آخر، وقد تنتشر بدعة التصوف وطقوسها في بيئة دون بيئات، وقد تشتهر بعض المحرمات وتصبح عادة مألوفة في مجتمع تحتاج إلى أن ينص العلماء عليها ويحذرون منها كالشغار والنجش وبعض أنواع الربا والإسراف والتبذير و .. و .. إلخ.
وهذا يوجب أن يقوم من كل مجتمع عالم يكتب علاجاً قرآنياً لأمراض مجتمعة فما زالت المنكرات منتشرة وما زالت البدع سائدة، نسأل الله سبحانه الإصلاح والتوفيق.