للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد أثبتنا أن الشرعية الإسلامية تستخدم وسائل عديدة لتحديده بدء زمن تكاليف شرعية. والحكم الفقهي هذه الوسائل لا يخرج عن ثلاث حالات: إما أن كل هذه الوسائل جزء من العبادة التالية وبالتالي يجب العمل بكل وسيلة أتى بها الشرع لأن الوسيلة أيضاً عبادة، أو أن كل هذه الوسائل ليست جزءا من العبادة التالية لأن الوسيلة ليست عبادة في ذاتها، أو أن لكل وسيلة حكما فقهيا مستقلا. الحالة الأولى فيها تناسق ذاتي ولكن تورطنا في جعل بعض الوسائل تعبدية بينما لا يمكن – وأحياناً يحرم – جعلها عبادة، كالبلوغ والحيض، كما أنها تؤدي إلى اختلافات تطبيقية شاسعة بين المسلمين. الحالة الثانية فيها أيضاً تناسق ذاتي، لا تورطنا في السقطة السابقة، تشرح لنا لماذا استخدم الإسلام ما خلق الله لتحديد بدء زمن ما شرع الله، تتنبأ ببعض ما أخبر به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تظهر الشريعة الإسلامية كنظام متماسك ومترابط وتظهر تناسقاً مع ما خلق الله سبحانه وتعالى. الحالة الثالثة تظهر تضاربا في الشريعة ذاتها، تنافرا مع العلم العصري (الكون)، انتقائية في النص وشرحه، تعطيلاً أو لي عنق لنصوص أخرى، وانشغال صاحبه لإثبات ما لم يكن ضرورياً لإثباته ولا يمكن إثباته – لا يمكن أن نظهر فقهياً انتقائياً أحادياً ثم نصرخ أن الشريعة الإسلامية نظام متناسق ومتماسك.

إن دور ظواهر طبيعية في تحديد بدء زمن تكاليف شرعية هو في كونها وسائل لأن الأصل في التكليف الشرعي هو العبادة وليس الوسيلة لاستحالة أن يقام تكليف شرعي دون وسيلة، ولتغيير استخدام ظواهر (أدوات) طبيعية للتكليف الشرعي نفسه أو لتكليف آخر، ولوجود قيود طبيعية و/أو شرعية على هذه الوسائل. فوسيلة دخول رمضان هي رؤية الهلال (بمعنى العلم به، أي معرفة دخول الشهر) والشرع نفسه أتى ببديلين آخرين لرؤية الهلال وبالتالي دخول الشهر وهما إكمال عدة شعبان ثلاثين أو التقدير للهلال لوجود عائق طبيعي وهو الغيوم. كما استخدم ظهور الهلال لبدء شوال وذي الحجة ومحرم. أما من يقول بما يسمى اختلاف المطالع فعليه مواجهة حل مشاكل تطبيقية عديدة. وفي محاولته هذه فهو أمام أمرين: إما أن يكون انتقائيا أو متناسقاً مع نفسه أو أن يتشبث بالإنكار وبذلك يجعل الشرعية الإسلامية ذات بنيان غير متناسق في ذاتها ومع ما خلق الله. حتى القبلة التي يتعبد بها لأنها شرط من شروط الصلاة (وقد حلت البوصلة في عصرنا محل الاتجاه التقديري للقبلة، بل إن اتجاه القبلة يحسب الآن بأجهزة عصرية)، فيجوز للمسلم في حالة عدم معرفته لاتجاه القبلة أن يجتهد ويتجه إلى أي اتجاه يراه {ولله المشرق والمغرب فإينما تولوا فثم وجه الله ... } [البقرة: ١١٥]، فالقبلة وسيلة والكعبة رمز والصلاة هي القصد وهي العبادة – والعبادة فقط لا تسقط. حتى الماء الذي لا يتم الوضوء والطهارة إلا به، له بدائل: التيمم والاستنجاء والاستجمار وغيره، فالقصد هو التطهر.

<<  <  ج: ص:  >  >>