للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما البلوغ وهو أم الوسائل لكل التكاليف الشرعية فيعتريه أولاً اختلال طبيعي (تفاوت سن البلوغ وفترة الحيض أو انقطاعه)، وعليه ثانياً قيد تكميلي (فليس كل من بلغ يكلف شرعاً: فيجب أن يكون مسلماً ثم عاقلاً ثم واعياً، فالمجنون والنائم ومن في غيبوبة ومن في حكمه يقف عنه التكليف حتى يستيقظ)، وله ثالثاً بديل عرفي (عمر محدد). ولكن ليس للعبادة بديل، فقد تقصر العبادة (الصلاة للمسافر) أو تسقط (الصلاة للحائض والنفساء) أو تقضى (الصيام للحائض والنفساء) ولكن لا تستبدل بغيرها. والشرع أتى باللفظ (أي النطق بالإيجاب والقبول) لانعقاد الزواج وإيقاع الطلاق وتنفيذ الرجعة، ولكن ينجز الآن الزواج والطلاق لفظاً وكتابة وإشارة، بل يجب على المرء في هذا العصر أن يسجل زواجه وطلاقه ويوثقه رسمياً. إن حقيقة كون بعض الظواهر الطبيعية لا تتحقق وأن العبادة المرتبطة بها ثابتة، يظهر بوضوح أن كل الظواهر الطبيعية التي استخدمها الشرع هي وسائل لا يتعبد بها، وأن القصد أو الهدف هو العبادة الثابتة.

لقد رأينا في صفحات سابقة أنه من المستحيل أن تكون بعض الظواهر الطبيعية، أو غيرها من الوسائل، لإقامة تكاليف شرعية بحد ذاتها عبادة، كالحيض والاحتلام واللعان وشعر العانة وشراك النعل وغيرها. إن كل وظائف الظواهر الطبيعية محايدة بذاتها، ووجودها على وجه الأرض سابق للشريعة وللإنسان. فحينما تستخدم الشريعة الإسلامية ظواهر طبيعية كوسائل فإنها تقيم الحجة على البشر، لأن معرفة الظواهر الطبيعية لا تحتاج إلى علم مكتسب والإسلام لا يشترط الكتابة والقراءة لاعتناقه. فرسول الإسلام أمي وقومه أميون ويخلق الله كل البشر أميين، ولكن هذه ليست دعوة شرعية للأمية. كما لا يفهم من كل الآيات الواردة في القرآن أن السمع والبصر والفؤاد وسائل حصرية للتعلم؛ أي لا يجوز استخدام غيرها، وهكذا في استخدام معادن أو بقول أو حبوب أو أجرام سماوية أو المشي أو مقاييس طبيعية. وأخيراً ظهر لنا، أن التكليف الشرعي لا يسقط بعدم توفر ظاهرة شرعية طبيعية أو وسائلها؛ ولكن العكس غير صحيح، أي لا توجد ظاهرة (أداة) طبيعية شرعت وحدها كعبادة. لكن تيسيرا من المشرع الكريم يستعاض أحياناً بظاهرة طبيعية أخرى أو بأداة عرفية أخرى أو طريقتها لتحديد العبادة. كما لا يتعطل نص بتكليف شرعي باستخدام ظاهرة طبيعية أو عرفية بديلة لأن النص يبقى هو المرجع.

الآن ماذا نستفيد من هذه النظرة الشمولية لدور ظواهر طبيعية في تحديد تكاليف شرعية؟ الجواب التالي:

أولاً: على المسلم والمتخصص أيضاً في الشريعة الإسلامية أن يكون متناسقاً مع نفسه عندما ينظر إلى، ويتفقه في، أحكام الله وهدي رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. عدم حصول ذلك يظهر للغير أن أحكام الشريعة الإسلامية تناقض نفسها، بينما هو موقف فردي أو مذهبي. إن التناسق الفكري (أو عدمه) للفرد أو للاتجاه ليس له علاقة بأصل أحكام الشريعة الإسلامية. ومن التشطط والتسلط أن يجعل فرد من نسيج فكره وقدرة فهمه ومدى علمه حكراً لمراد الله سبحانه وتعالى وحكراً لمراد رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي يخطئ غيره لأنهم اختلفوا معه ويصادر فكرهم لأنهم عارضوه.

ثانياً: على المسلم أن يعلم أن شرع الله وحدة كلية متناسق في ذاته متناغم في خلقه – سبحانه فالتكاليف الشرعية شرع الله والظواهر الطبيعية خلق الله، والله هو الحق الحكيم.

ثالثاً: أن الإسلام ليس فقط ديناً سماوياً بل ديناً طبيعياً أيضاً لاستخدامه الخلق في تحديد أمور الشرع. كما سيسهل شرح سلوك (مثلاً، السن المبكر للزواج والجهاد وضرب العنق لتنفيذ حكم الإعدام) للمتسائلين ولغير المسلمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>