١٢ - انتقلت بعد ذلك إلى الكلام عن عدم القدرة على تسليم المحل، فبينت رأي الجمهور في اشتراط القدرة على التسليم لصحة البيع، وخلاف الظاهرية في ذلك، ثم بحثت بعض البيوع التي فيها غرر ناشئ عن عدم القدرة على التسليم، فتكلمت عن بيع الآبق، وبيع السمك في الماء، والطير في الهواء، وبيع الدين، وبيع الإنسان ما ليس عنده، وبيع ما لم يقبض، وبيع المغصوب وانتهيت إلى أن الدين جائز، وإلى أن بيع السندات جائز أيضاً ما دام البيع خاليا عن الربا، كما انتهيت إلى أن عدم جواز بيع الإنسان ما ليس عنده خاص بالبيع المدخول فيه على تسليم المبيع في المحل، وعلى هذا فلا يدخل فيه بيع الاستيراد. وحققت أحاديث النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وبينت الأحكام التي تستفاد منها، ورأيت أن النهي يتناول الطعام وغيره، منقولا كان أو عقاراً، وأن النهي خاص فيما ملك بالشراء وحده، ولا يتناول ما ملك بأسباب التملك الأخرى.
ثم استخلصت من بحث عدم القدرة على التسليم الحقائق الآتية:
(١) ليس كل ما لا يقدر على تسليمه فيه غرر.
(٢) القدرة على التسليم عند الحنفية قد تكون شرط انعقاد، وقد تكون شرط صحة، وقد تكون شرط نفاذ.
(٣) الأصل أن تكون القدرة على التسليم متحققة عند العقد، ولكن قد يكفي إمكان تحققها بعد العقد أحيانا.
(٤) قدرة المشتري وحده على التسلم تكفي لصحة البيع، ولو كان البائع عاجزاً عن التسليم عند كثير من الفقهاء.
(٥) القدرة على التسليم في الفقه الإسلامي أعم من إمكان المحل في القانون.
١٣ - ثم تكلمت عن التعاقد على المعدوم، وبينت فيه أن الغرر يأتي من الجهل بوجود المحل لا من كونه معدوما، ودفعت حجج من يمنع بيع كل معدوم، ووضحت أنه ليس فيما استدلوا به ما يفيد أن بيع المعدوم لا يجوز على الإطلاق، وإن كان فيها النهي عن بيع بعض المعدوم، وانتهيت إلى أن القاعدة التي ينبغي اتباعها في بيع المعدوم هي: أن كل معدوم مجهول الوجود في المستقبل لا يجوز بيعه، وأن كل معدوم محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة يجوز بيعه.
ثم أوردت بعد ذلك تطبيقات لبيع المعدوم، فتكلمت بالتفصيل عن بيع الثمار، وحققت الأحاديث الواردة فيه، وأخذت منها أن بيع ثمر الشجرة، أو الحديقة لعام أو لأعوام مقبلة لا يجوز، وأن بيع الثمر قبل بدو صلاحه على أن يترك في الشجرة إلى أن ينضج لا يجوز أيضا، وأن علة النهي هي خوف هلاك الثمر بسبب العاهة، وما يترتب على الهلاك من خصومات وأكل للمال بالباطل وبينت على هذا التعليل أنه لو كان هناك نوع من الثمار لا تصيبه العاهة فلا بأس من بيعه قبل بدو صلاحه، وكذلك إذا كانت العاهة تندر في بلد من البلاد بسبب طبيعة ذلك البلد، أو بسبب التغلب على العاهات بالطرق العلمية، فلا حرج من بيع ثمار ذلك البلد قبل بدو صلاحها، كما أخذت من الأحاديث أن بيع الثمر بعد بدو صلاحه جائز سواء كان بشرط القطع أو بشرط الترك، أو على الإطلاق. ثم وضحت آراء الفقهاء في الموضوع وأشرت إلى أن ما نسب إلى عمر بن الخطاب من أنه يجيز بيع الثمار سنين غير مقبول، وإلى أن نسبه بعضهم إلى محمد بن الحسن من تجويز بيع الثمر قبل بدو صلاحه بشرط الترك، إذا تناهى عظمه، غير صحيح.
ثم تكلمت عن بيع الثمر والزرع الذي يوجد بعضه بعد بعض، وبينت أن جمهور الفقهاء لا يجوز عندهم بيع ما لم يوجد من الثمر مع ما وجد وبدا صلاحه فلا يباع البطيخ ونحوه عندهم إلا لقطة لقطة، وأن المالكية والشيعة الإمامية وبعض مشايخ الحنفية يجوزون بيع ما لم يظهر من الثمر مع ما ظهر وبدا صلاحه وعرضت حجج كل فريق، وانتهيت إلى ترجيح رأى المجوزين.