٨ - لا صحة لما يطعن به البعض في عقوبة القصاص من أن الغرض منها الانتقام من الجاني، بل إن الغرض الأساسي منها كما سبق بيانه هو المحافظة على استمرار البقاء والحياة على وجه البسيطة، وشتان ما بين شريعة القصاص وبين الانتقام، فالانتقام يدفع إليه الحقد، والبغض والكراهية، والقصاص يدفع إليه طلبا لعدل، والسعي إلى تحقيق الأمن، والانتقام يتولاه المعتدى عليه أو أقرب الناس إليه طلبا للثأر، والقصاص يتولاه الحاكم، ولا يكون إلا بإذنه، والانتقام يقوم على الشبه والظنون في كثير من حالاته، والقصاص لا يكون إلا بعد ثبوت الجريمة بالدليل الخالي من الشبه، والانتقام قد يكون فيه إسراف ومجازاة غير الجاني من أهله وذويه، والقصاص يلتزم فيه مبدأ العدل والإنصاف، وعدم الإسراف، والبعد عن معاقبة غير الجاني، فشتان ما بين الأمرين، أمر شرعه خالق الأرض والسماء، وأمر تدفع إليه الكراهية والحقد والبغضاء.
٩ - اتضح من ثنايا البحث مدى تكريم الإسلام للإنسان، وإعلائه من شأنه وتشديده النكير على من يتعدى على حياته بغير حق، فقد جعل الله عز وجل قتل النفس الواحدة بمثابة قتل الناس جميعا، وإحياءها بمثابة إحياء الناس جميعا، قال تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.
وتوعد من اعتدى على النفس البشرية بغير حق بوعيد هو غاية الشدة، فلقد توعده بالخلود في نار جهنم، والغضب واللعن، والعذاب العظيم {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} حتى لقد ذهب بعض الفقهاء إلا أنه لا توبة لقاتل بناء على هذا الوعيد بالخلود في النار، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كرامة المرء المسلم ورفعة شأنه عند الله سبحانه وتعالى بقوله:(لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم).
وقوله:(لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار).
١٠ - اتضح من البحث أن الشريعة الإسلامية أعطت أولياء الدم، وهم ورثة المجني عليه أو عصبته الذكور وأقرباؤه عموما الوارثون منهم وغير الوارثين – على خلاف بين الفقهاء في ذلك سبق بيانه – الحق في طلب القصاص من الجاني أو العفو عنه مقابل الدية أو بلا مقابل، وفي إعطائهم هذا الحق إطفاء لغيظهم، وإزالة لآثار الحقد من قلوبهم، وتهدئة لثائرتهم، وانتزاع لعوامل الشر من نفوسهم، وبإعطائهم هذا الحق يكون لهم الخيار في طلب إيقاع العقوبة على الجاني جزاء له، أو العفو عنه، والعفو أفضل لقوله تعالى:{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {٤٠} وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} وقوله تعالى: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} ولما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو.
فإذا ما عفوا عن طواعية واختيار كان لذلك أثره البالغ في عودة الصفاء والوئام والمحبة بين الطرفين – الجاني وأولياء الدم -.