ولعفو أولياء الدم أثر بالغ على نفسية الجاني، ولا يمكن مقارنة هذا الأثر بالأثر الذي يحدثه حكم القضاء بالبراءة، أو حكمه بتخفيف العقوبة على الجاني لبعض الظروف، وذلك لأن تخفيف الحكم أو الحكم بالبراءة يصدر من سلطة لا علاقة للمجني عليه ولا لأوليائه بها، وقد يدفع ذلك الجاني إلى الشماتة بأولياء الدم، فإنه – رغم اعتدائه على المجني عليه وسفكه لدمه – لا يزال حرا طليقا يسرح ويمرح كيفما شاء وليس ذلك في حالة عفو أولياء الدم، فإنه لا مجال للشماتة بهم، وهم أرباب نعمته، حياته كانت بأيديهم وهم وهبوها له، بل إن ذلك يدعوه إلى الاعتراف بفضلهم ومودتهم، والتقرب إليهم.
١١ - فإذا انتقلنا إلى جريمة الحرابة رأينا أن الأصل في مشروعية العقوبة على هذه الجريمة هو قول الله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {٣٣} إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وقد رجحت قول من قال: إن العقوبات التي تضمنتها هذه الآية على التخيير وليست على التعيين، فللإمام أن يوقع على المحارب أيها شاء، ووجهت ذلك فيما مضى، وبذلك تكون هذه العقوبة أكثر في الردع والزجر، ولأن من أراد أن يقدم على فعل المحاربة لا يعلم ما سوف يلحقه من العقاب، فقد يكون القتل أو القطع، أو القتل والصلب أو غير ذلك، وعندئذ يتصور أن ينفذ فيه أقسى هذه العقوبات فيرتدع عن الإقدام على هذه الجريمة بكافة صورها.
وقد شرعت هذه العقوبة لحماية الأنفس، وحماية نظام الملكية من شر قطاع الطرق، ومغتصبي أموال الناس بقوة السلاح، ومن المخادعين المراوغين الذين يتحايلون على الأفراد، فيخلون بهم، وتحت وطأة السلاح يسلبون أموالهم، ويسفكون دماءهم، وبتطبيقها يضمن للناس أسباب المعيشة واستمرارها، وتعم أحكام الدين، ويقطع دابر العصابات المسلحة التي تهدد أمن المجتمعات، وتنشر الذعر في أطراف الديار.
١٢ - وتبين من البحث أن حد الردة ثبت بالكتاب والسنة وإجماع أهل العلم، وأنه لا حجة معتبرة لمن أنكر وجوب قتل المرتد، بل إن قوله مخالف للسنة والإجماع، ذكر ذلك ابن قدامة رحمه الله تعالى.
وقد عرضت وجهة نظر المشككين في ثبوت هذه العقوبة وفندتها أثناء الحديث عن الردة، ثم بينت أن عقوبة الردة لا تتنافى مع حرية العقيدة التي أقرها الإسلام، والتي دل عليها قوله تعالى:{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} وقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} وذلك لأن الآيتين وردتا لبيان عدم جواز إكراه الناس على الدخول في الدين الإسلامي إذا لم يكن مقتنعا به وبتعاليمه، وهذا يتمشى مع مقتضيات الطبيعة البشرية، فإن العقيدة أمر قلبي، لا يمكن إكراه الإنسان عليه، وإجباره على اعتقاد صحته، ولذلك أعطي الإنسان ابتداء الحرية في اعتقاد هذا الدين أو عدم اعتقاده.
أما بعد أن يعتنق المرء هذا الدين عن طواعية واختيار فليس له أن يتراجع عنه ويتخذه لعبا وهزوا، فإن صدر منه شيء من ذلك استحق العقاب، حماية للدين والنظام الاجتماعي الذي يقوم على أساس الدين، إذ لا يستقيم أمر الجماعة الإسلامية إذا ترك لكل من ينتسب إليها أن يطعن في دينها ودستور حياتها بما شاء من المطاعن بعد أن آمن به مختارا والتزم باحترامه والعمل به.