للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

١٨ - إن الشارع الحكيم حينما شرع عقوبة القتل على الجرائم السابقة مراعاة لمصلحة الفرد والمجتمع لم يهمل مصلحة المتهم نفسه، فلقد وازن شدة العقوبة بالاحتياط في وسائل وطرق إثبات الجريمة، حتى يضمن ألا توقع العقوبة إلا حيث ثبت على وجه اليقين أو قريب منه ارتكاب الجاني للجريمة، ولذلك اشترط في الإقرار أن يكون صريحا لا شبهة فيه، واشترط في الشهادة على جريمة القتل أن تكون من شاهدين عدلين ذكرين غير متهمين في شهادتهما، وشرط في الشهادة على الزاني أن تكون من أربعة شهود تتوفر فيهم شروط خاصة مع وجودها تنتفي الشبهة والتهمة عن شهادتهم، وهذه الشروط وغيرها من الشروط التي قررها الشارع الحكيم كفيلة باستبعاد كل ادعاء أو خطأ يكون المتهم ضحية له، فهي إنما اشترطت مراعاة من الشارع الحكيم لحال المتهم، وضمانا له من أن يعاقب على جريمة هو بريء منها.

ولم يكتف الإسلام بهذا الاحتياط في وسائل الإثبات، ولكنه فتح الباب لدرء العقوبة فقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة).

وبهذا تتحقق العدالة فلم تراع مصلحة المجتمع وتهمل مصلحة المتهم، ولم يكن العكس، بل نظر إلى المصلحتين جميعا بعين الاعتبار بما يحقق العدالة والأمن والاستقرار.

١٩ - بإمعان النظر في الحالات التي قرر الفقهاء استحقاقها عقوبة القتل تنفيذا لشرع الله، والنتائج التي تحققت بسبب تطبيق هذه العقوبة على تلك الجرائم ندرك:

أولا: أن الحالات الموجبة لهذه العقوبة حالات قليلة جدا إذا قورنت بما كانت عليه بعض القوانين الوضعية التي كانت تحكم بالإعدام على جرائم عدة تتجاوز مائة جريمة، كالقانون الإنجليزي الذي كان حتى أواخر القرن الثامن عشر يعاقب بعقوبة الإعدام على مائتي جريمة، والقانون الفرنسي الذي كان يعاقب على ما يقارب مائة وخمس عشرة جريمة بعقوبة الإعدام.

ثانيا: أن الجرائم الموجبة للعقوبة بالقتل في الشريعة الإسلامية جرائم خطرة، ذات أثر كبير على الفرد وعلى المجتمع وعلى الأمة بأسرها.

ثالثا: أن الخوف من العقاب يدفع النفوس إلى الابتعاد عن الإجرام، ولذلك تحقق للأمة الإسلامية عبر التاريخ الأمن والاستقرار، بسبب تطبيقها لشرع الله، ونشأ عن ذلك وجود أفضل مجتمع عرفته البشرية عبر تاريخها الطويل، مجتمع قائم على العدل والرحمة والإخاء.

ولقد أثبتت التجارب في العصر الحديث نجاح هذا التشريع في إقامة العدل وصيانة الأخلاق، والمنع من الجريمة. ولنأخذ مثلا على ذلك حال الجزيرة العربية قبيل دعوة الشيخ محمد عبد الوهاب، وقيام الدولة السعودية، فلقد كانت مرتعا خصبا للفتن والقلاقل وتناحر القبائل.

كانت القبيلة تغير على الأخرى، فتقتل الرجال، وتسبي النساء، وتستولي على الأموال، هذا في الفيافي والقفار، فأما في المدن والقرى، فقد تفشت فيها السرقات والغش والخيانة، والجرائم الخلقية بشتى صورها وأشكالها، وخيم الجهل على العقول والبصائر، انتشرت الخرافات وأعمال السحر والكهانة، وسادت شريعة الغاب، فأكل القوي الضعيف، ولم يعد المرء يأمن على نفسه أو ماله أو عرضه.

وباختصار فلقد كان الفوضى الشاملة تهدد حياة المقيمين في هذه الجزيرة، بل والوافدين إليها من الحجاج والتجار وغيرهم، وكان الأمن يزداد اضطرابا في مواسم الحج فيرتفع معدل الجريمة من قتل ونهب وسرقة إذ تغير القبائل التي بعدت عن تعاليم الدين على قوافل الحجيج، فتقتل منهم من تقتل، وينهبون ما معهم من زاد ونقود ومؤونة، مع أمن المعتدي من العقاب، فلا سلطة تردعه، ولا وازع من دين أو ضمير يؤنبه.

<<  <  ج: ص:  >  >>