١٦ـ المدعو يعيش في ظرف مكاني، وظرف زماني، وهذان الظرفان يختلفان بما يحيطهما ويوجد فيهما. والداعية لا بد أن يكون على علم بالمكان الذي يدعو فيه، ويقدر الزمان الذي يعيش فيه، فلكل زمان دولة ورجال، ولكل ماكان إمكاناته وأحواله.
وبناءً على هذا فإن ما يصلح في مكان، قد لا يصلح في آخر، وما يناسب في زمان قد لا يناسب زماناً آخر. وهذا يحتم النظرة الواقعية التي يتم بها مراعاة ظروف الزمان والمكان، حتى تسير الدعوة سيراً سليماً يتم به تحقيق المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها.
ثانياً: الباب الثاني:
أوضحت الرسالة منهج ابن تيمية في الدعوة إلى العقيدة والعبادة، وأنه ركز في دعوته على الأصول ومن أبرزها العقيدة، والعبادة، والأخلاق. وكان هناك العديد من المبررات لقوة توجه ابن تيمية في دعوته إلى هذه الأصول، حيث تأثيرها في تفكير الإنسان، وتصرفاته، ورفضه، وقبوله، وسلوكياته مع الآخرين، فالمحافظة عليها في نسق علمي وعملي سليم يؤدي إلى انضباط متكامل في حياة الفرد والجماعة.
كما أن هذه الأصول بينها ترابط في التأثر والتأثير في بعضها البعض، فإصلاح أحدها يشكل إصلاحاً كلياً أو جزئياً للآخر.
واستطاع ابن تيمية أن يبرز قواعد منهجية منبثقة من نصوص الكتاب والسنة في شبكة العلاقات بين الدعاة المصلحين وبين فئات الأمة المسلمة وبين أهل الذمة المقيمين في كنف الدولة الإسلامية، وقدم في ذلك منهجاً نظرياً، وتطبيقاً عملياً لهذا المنهج من خلال مسيرته الدعوية.
وهذا كله مبثوث ومفرق في العديد من كتبه، وقد عملت هذه الرسالة على تجميع هذا الشتات وتقديمه بطريقة تخدم القارئ وتختصر المسافات الزمنية التي يحتاجها للجولة على تلك الكتب.
ومما تناولته هذه الرسالة في مجال منهج التعامل الأخلاقي:
أـ مع العلماء والشيوخ.
ب ـ مع العامة.
ج ـ مع ولاة أمور المسلمين.
د ـ مع أصحاب البدع والمنكرات.
هـ ـ مع غير المسلمين.
وقد سبق ذلك مقدمة هي عبارة عن قواعد ونظريات منهجية، الأخذ بها يكلل الجهود بالنجاح في أقل فترة زمنية، إضافة إلى أنها تكشف للمصلح عن معان دقيقة في تركيبة النفوس البشرية، وتلقي الأضواء عليها لتكشف عن أبوابها ونوافذها للدخول إليها منها.
ومن القضايا المنهجية التي أبرزتها هذه الرسالة قواعد ونظريات التعامل مع علماء الأمة الذين هم أصحاب القدرة العلمية وهم من خلفاء الرسول e وهم من ولاة أمر المسلمين، وهم المكونون لاتجاه الأمة العقدي، والفكري، والمؤثرون عليه. فمنزلتهم ومكانتهم في الأمة ومصيرها ذات شأن كبير، فلا بد أن يكون للدعوة منهج للتعامل معهم بما يليق بهذه المكانة، ويحقق المنافع للمسلمين، ويبعد المضار. وجاء هذا المنهج الذي حدده ابن تيمية معتمداً على معرفته بالمسارب النفسية مع اعتبار عدد من المؤثرات الداخلية في كل منهم، والخارجية في المجتمع، وحساب دقيق لكل هذه المؤثرات، يضاف إلى هذا رصيد التجربة الميدانية التي عمقت لديه بعض النظريات كما كشفت له حقائق لم تكن مسلمة لديه من ذي قبل.
وكل هذه الجوانب جعلت منهج ابن تيمية في التعامل مع العلماء فريداً يتسم بالإيجابية، والمرونة، والصراحة، والوضوح، ويكلل ذلك العدل، والإنصاف، وإعطاء كل ذي حق حقه.
وتناول الحكام أو الولاة بشكل عام بالدراسة فقدم نظريات نادرة تستند على علم بطبائعهم، وأحوالهم النفسية، والدوافع وبواعثها. كما أنه ذكر المواقف التي تصدر منهم وضدهم وقدم آراء فيها، واضعاً تحت المجهر بدايات هذه الأمور وما تؤول إليه.
وبعد ذلك قدم منهجاً للتعامل مع هذه الفئات من أجل تحقيق الخير لهم وللمسلمين، ومن أجل تحقيق المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.