وقدم آراءه في الموقف الأسلم فيما يصدر من هذه الفئات من المخالفات والتجاوزات علىأحكام الشريعة، وأبدى تجارب الدعاة السابقين من أهل الغيرة على الدين من الذين أدت بهم غيرتهم إلى الصدام مع السلطة، وأنها لم تحقق النتائج التي أرادوها، فزاد الظلم وقتل كثير من الأخيار.
وكان ابن تيمية يركز على الطلاب النابهين الذين يرى عليهم مخايل النبوغ والجد والعزيمة والإرادة، فكان يحرص على هؤلاء ويلازمهم ملازمة يتأكد بها أنه أعطاهم ما يعصمهم من الانفلات عن منهج السلف، ونظراً لمعرفته التامة بأن الفروق الفردية أمر واقع بين الناس، وأنه يلزم مراعاته في منهج الدعوة أثناء التنظير والتنفيذ، فإنه قسم تلاميذه إلى قسمين:
الأول: تلاميذ عامون: وهؤلاء الذي يحضرون دروسه العامة.
الثاني: تلاميذ خاصون: وهؤلاء يحضرون الدروس العامة وكان يخصهم بدروس خاصة في منزله يقول فيها ما لا يقوله عند من لا يثق بقدرتهم على الفهم من عموم التلاميذ. ويطالب هؤلاء ما لا يطالب به الصنف الأول. والتلاميذ الخاصون هم الذين حملوا أفكاره وآراءه العلمية والعملية ونشروها في تلاميذهم وفي العديد من البلدان التي عاشوا فيها.
وعامة المسلمين لا يستجيبون إلا لمن أثر فيهم بسلوكه وأقواله في فعله، وفعله في قوله، وإذا كان فيهم فهو أب شفيق، وأخ رفيق، وصديق حميم، إذا جاءت الضراء فإذا هو في مقدمتهم يكافح وينافح، وإذا جاءت السراء فإذا هو أخرهم يؤثرهم بها، ويترفع عنها. دوماً معهم صاحب يد عليا تعطي ولا تأخذ.
وإذا أراد نقلهم من سلوكهم المألوف وطبعهم المعروف، تحيّن الوقت المناسب وقدم لهم ما يحبون من أجل أن يصل إلىما لا يحبون، ومزج لهم مع المرة الحلوة حتى تذهب مرارتها، يراعي فيهم ما كوَّنهم الله عليه من الفروق الفردية، والقدرات العقلية والبدنية فيعطي كلاً ما يناسبه. ويراعي عدم إعطائهم ما لا تقدر عليه عقولهم من الحق حتى لا يكون لهم فتنة فيكذبوا الله ورسوله.
وأصحاب البدع والمنكرات في نظره مرضى مستحقون للعلاج، ويلزم السير معهم في مسالك متعددة لإشعارهم أنهم مرضى، وأنهم محتاجون للعلاج، وهو يختلف من شخص إلىشخص، فما يصلح لهذا قد لا يصلح لذاك، ويجب النظر في المصالح والمفاسد ومراعاة الظروف والواقع الذي يكتنف الداعية والمدعو، فإذا كان الهجر للمتبدع وصاحب المنكر من أنواع العلاج الشرعي فإن فعله لا بد فيه من النظر إلى قدرة الداعية على تحقيقه من دون أضرار تزيد على المصالح، وكذلك النظر إلى المهجور ومدى انتفاعه بهذا العلاج، فإن كان شره يزيد بالهجر فما أصبح علاجاً فيلزم تركه.
وغير المسلمين من أهل الذمة في داخل الدولة الإسلامية، أو الذين لا ذمة لهم، هؤلاء من أمة الدعوة الذين يلزم إيصالها إليهم بطرق يزيل ما لديهم من شبهات، كمناظرتهم، ومجادلتهم حتى يتبين لهم أن الإسلام هو الحق.
وقد وضع ابن تيمية لدعوة غير المسلمين منهجين:
الأول: منهج يُدعى به من كان من أهل الكتاب.
الثاني: منهج يُدعى به من ليس لهم كتاب من المشركين وسائر الكافرين.
وإذا كان هؤلاء الكفار لهم وجود ودول، فإن الداعية يكون له احتكاك بهؤلاء، فما هو الشيء الذي يلزم أن يفعله، والمنهج الذي يسير عليه في التعامل معهم؟ هذا ما كشفته هذه الرسالة وجمعت شتاته لتضعه بين يدي القارئ.
ثالثاً: الباب الثالث: الأساليب والوسائل: