• تغيرت طبيعة الحياة المادية، فانتقل الناس من حياة الزهد والتقشف التي كانوا يعيشون عليها في عهد النبوة والشيخين إلى حياة الرخاء والترف بسب النعم والخيرات التي كانت تدرها الفتوح. وغني عن الإشارة أن ذلك الرخاء كان له أثره على المجتمع بسبب ما يترتب عليه من انشغال الناس بالدنيا والافتتان بها. كما أنها مادة للتنافس والبغضاء، خاصة بين أولئك الذين لم يصقل الإيمان نفوسهم ولم تهذبهم التقوى من أعراب البادية وجفاتها، ومن مسلمة الفتوحات الذي جروا شوطاً في زخارف الدنيا وبهجتها، واتخذوها غاية يتنافسون فيها.
وعندما قام عثمان بواجبه تجاه أولئك الذين بدؤوا نوعاً من حياة الترف وفساد الأخلاق، انضم هؤلاء المستهترون إلى صف الناقمين من الرعاع وغيرهم.
• لقد كان مجيء عثمان مباشرة بعد عمر - رضي الله عنهما - واختلاف الطبع بينهما مؤدياً إلى تغير أسلوبهما في معاملة الرعية؛ فبينما كان عمر يمتاز بالشدة والصلابة، كان عثمان ألين وأرق في المعاملة مما كان له بعض الأثر في مظاهر الفرق عند حدثاء الإسلام في عهده وعهد سلفه.
• كانت العصبية القبلية مادة تهيج النفوس وتحركها، وكانت في دورها هذا مفتاحاً للفتنة، إذ كانت بعض القبائل ترى لنفسها موقع قدم وفضل في الفتوح، وتأنف من رياسة قريش عليها، ووافق ذلك أيام عثمان، فكانوا يظهرون الطعن في ولايته بالأمصار، ويفيضون في النكير على عثمان، فكان ذلك مؤشراً لبداية الفتنة في الكوفة، وهي أول مصر نزع الشيطان بين أهله في الإسلام كما يقول الشعبي.
• وقع في أوهام كثير من الناس عن حسن نية أو عن سوء نية من أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان ضعيفاً في مواقفه إزاء الأحداث العاصفة على الدولة الإسلامية، أو كان مستضعفاً يساق إلى ما يراد. وهذه غلطة تاريخية في حق ثالث أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضلاً وديناً.
هذا وقد استغل المستشرقون ومن سار على دربهم من الباحثين العرب الراوايات الموضوعة التي تضعف عثمان والتي افتراها أهل الكذب من بين رواة الأخبار، فركزوا على التوسع في البحث فيها؛ بل كانت مغنماً تسابقوا إلى اقتسامه ما دامت تخدم أغراضهم للطعن في الإسلام ورجاله. ثم إنهم استغلوا وداعة عثمان ورحمته ورأفته بالرعية لينفثوا شبهة من شبههم، وهي: أن عثمان كان ضعيفاً في شخصه.
هذه الدعوى تسقط لعم وجود سند أو دليل يعتمد عليه في هذا الزعم، كما أنه يستفاد م سياق حديث الشورى الذي جاء في (الجامع الصحيح) للبخاري وفي (تاريخ الطبري) أن اخيتار عثمان - رضي الله عنه - خليفة لم يكن إلا أنه أمثل من وقع عليه الاختيار من قبل الناس، وأعدل وأصلح من يتحمل المسؤولية أمام الله وأمام المسلمين.
إن عثمان - رضي الله عنه - وإن كان رؤوفا رحيماً بالناس - وهذه من صفات الحاكم العادل - فلم يكن أبداً ضعيفاً في حدود الله. وكان يتبع سياسة عمر - رضي الله عنه - في الاستفسار عن العمال من وفود الحج وسؤال الرعية عن أمرائها، فكان يكتب إلى الناس في الأمصار أن يوافوه أيام الحج إن كانت لديهم مظالم، فيرفعونها إليه بحضرة أميرهم فيقضي بينهم بالحق.
وكان - رضي الله عنه - يشتد في متابعة عماله ويحدد سلطانهم، بما يحقق مصالح المسلمين والرحمة بهم والرفق بالرعية. وإلى جانب ذلك كان يبني في نفس الرعية الجرأة والصراحة في الحق وعدم الجبن والخوف ليكونوا رقباء على الحكام في القيام بالأمانة التي ائتمنهم الله عليها.