إن عثمان - رضي الله عنه - لم يكن عاجزاً أن يتخذ لنفسه حجاجاً يسلطه على أبشاء الأمة بسياط القهر والجبروت، ويطلق يده في دمائها حتى تخضع وتسكن، ولم يكن عاجزاً أن يحدث للناس عقوبات فوق ما أحدثوا وينكل بأولئك الخارجين عليه. إنه ما كان عاجزاً عن هذا وأمثاله، ولا كان ضعيفاً أو مستضعفاً، ولكنه كان خليفة راشداً يحجزه عدل الخلافة الراشدة عن مآثم الملك العضوض.
• كان موقف عثمان - رضي الله عنه - إزاء الأحداث التي ألمت به وبالمسلمين المثل الأعلى لما يمكن أن يقدمه الفرد من تضحية وفداء في سبيل حفظ كيان الجماعة، وصون كرامة الأمة، وحقن دماء المسلمين. فقد كان بإمكانه أن يقي نفسه ويخلصها لو أنه أراد نفسه ولم يرد حياة الأمة. فلو كان يحب ذاته ولم يكن من أهل الإيثار لدفع بمن هب للذود عنه من الصحابة وأبناء المهاجرين والأنصار إلى نحور الخارجين المنحرفين عن طاعته. ولكنه أراد جمع شمل الأمة ففداها بنفسه صابراً محتسباً، حيث منع من سل السيوف بين المسلمين مخافة الفرقة، وحفظاً للألفة التي بها حفظ الكلمة، ولو أدى إلى هلاكه.
• وإلى جانب صبره واحتسابه حفظاً لكيان الأمة من التمزق والضياع، وقف عثمان - رضي الله عنه - موقفاً آخر أشد صلابة، وهو عدم إجابته الخارجين إلى خلع نفسه من الخلافة، فكان بذلك يمثل الثبات واستمرار النظام؛ لأنه لو أجاب الخارجين إلى خلع نفسه لأصبح منصب الإمامة العظمى ألعوبة في أيدي المفتونين الساعين في الأرض بالفساد، ولسادت الفوضى واختل نظام البلاد، ولكان تسليطاً للرعاع والغوغاء على الولاة والحكام.
ومما لا شك فيه أن هذا الصنيع من عثمان كان أعظم وأقوى ما يستطيع أن يفعله رجل ألقت إليه الأمة مقاليدها، إذ لجأ إلى أهون الشرين وأخف الضررين ليدعم بهذا الفداء نظام الخلافة وسلطانها.
• إن قتل الخليفة عثمان - رضي الله عنه - لم يكن هو الغاية التي يقصدها من خطط لهذا الحصار، وإلا لو كان كذلك لهان الأمر، وسكنت الفتنة، واستبدل خليفة بخليفة، وعادت الأمور إلى نصابها. ولكن بعض رواد الفتنة كانت لهم غاية أبعد أثراً وأعمق غوراً من قتل خليفة واستبدال آخر به. إن غايتهم هي: هدم حقيقة الإسلام والنيل من عقيدته وتشويه مبادئه في شخص الخليفة المقتول، وإثارة الضغائن والخلافات بين المسلمين.
لقد توالت خطط السبئية في خلافة عثمان وعلي - رضي الله عنهما - ولم يريدوا بها إلا الكيد لهذا الدين مستغلين حركة غوغائية تتكون من أعراب البادية وجفاتها ومن مسلمة الفتوحات الذين لم يصقل الإيمان نفوسهم، كما هي العادة في كثير من هذه الحركات التي تشكل أرضية تستغل من قبل المفسدين، ولكن الإسلام - ولله الحمد - كان أقوى من كل هذه الهجمات، وأعظم من كل هذه التحديات وأقدر على الصمود والثبات.
فقد ذهب ابن سبأ ومن على شاكلته وبقي الإسلام. أما أفكاره المدمرة وإن كانت لا تزال تجد مكانها في نفوس طائفة من أهل القبلة - وهم الشيعة - إلا أنها طائفة منبوذة لقبح اعتقادها وسوء تصرفاتها، بينما بقي السواد الأعظم من المسلمين على عقيدة أهل السنة والجماعة.
وقد قيض الله للإسلام رجالاً نفوا عنه خبث هذه الأفكار وأظهروا فسادها، فاستمسك المسلمون بعقيدة التوحيد، واتبعوا نهج السلف الصالح، كما حقق الله عز وجل نبوءة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال:(لا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله).