ومن هذه الأحكام أن لا يتبع مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل أسير، ولا يستحل فرج ولا مال، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. ولذلك لم يكن قتال البغاة إلا لدفعهم وردهم إلى الحق، فلا يستباح منهم إلا ما حصل بضرورة الدفع، وبقي حكم المال والذرية على أصل العصمة.
• إلى جانب الفرق المبتدعة الضالة، وهي من رواسب الفتنة ومن مخلفاتها، بقي جمهور المسلمين والغالب من فقهائهم وعلمائهم وحملة السنة منهم يمثلون السواد الأعظم أو الجماعة أو أهل السنة - كما أطلق عليهم فيما بعد -.
وأهل السنة والجماعة يبتعدون عن الغلو في كل شيء ويفضلون الاعتدال في الرأي والعمل، ويلتزمون ما فهمه سلفهم من الصحابة من آي القرآن الكريم وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا ذكر ما كان بين الصحابة - رضوان الله عليهم - من الاختلاف والحروب فمذهبهم الترضي والترحم على الجميع، وذكرهم بالخير والإحسان. وإذا ذكرت صفات الله يثبتونها ويفوضون كيفيتها بما يليق بجلال الله وعظمته، فيصفونه بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تكييف. وإذا ظلم الظالم أو جار فلا يخرجون عليه إلا بشروط منها: أمن الفتنة، وتحقيق الأفضل للمسلمين، ومعظمهم لا يرى الخروج إلا إذا كان ثمة كفر بواح عندهم من الله فيه برهان.
ويمكن القول أن الصبغة العامة لأهل السنة والجماعة هي الذهاب إلى أن العلم والعمل أجدى وأنفع من النقاش والجدال. لذا فهم يؤكدون على حقيقة الإيمان الشرعية وهي أنه: قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.
ولقد بقي التراث الفكري والفقهي لأهل السنة والجماعة حتى الآن مثلاً للاعتدال في فهم الأحداث ووزن الأمور بميزان الإسلام، والبعد عن انحرافات الغلاة من الفرق المختلفة في جميع مواضع الخلاف.
• موقف أهل السنة من الفتنة:
إن موضوع النزاع والخلاف بين المسلمين بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - ينظر إليه من زاويتين:
الأولى: إن اللوم في تلك الفتنة على العموم يلقى على قتلة عثمان، لأن كل من قتل من المسلمين بأيدي إخوانهم منذ قتل عثمان - رضي الله عنه - إنما يقع إثمه عليهم، فهم الذين فتحوا باب الفتنة وكل ما وقع بعد ذلك فإثمه ووزره عليهم، إذ كانوا السبب المباشر فيها، وهم الفئة المعتدية الظالمة التي قتل بسببها كل مقتول في الجمل وصفين، وما تفرع عنهما من أحداث وآراء ومواقف فتحت باب الخلاف والفرقة بين المسلمين.
ولا يخفى أن أعداء الإسلام الذين يئسوا من مجابهة الإسلام في الميدان الحربي رأوا أن الكيد لهذا الدين على الحيلة أنجع، فبدأوا يحكمون مخططاتهم في الخفاء، إذ أعلنوا الإسلام ظاهراً، وبقوا على كفرهم باطناً. وبهذا التستر والنفاق كانوا يثيرون المتاعب والمحن في وجه الدولة الإسلامية، ويضعون في دربها الكثير من الحواجز والعقبات، ويمارسون إزاءها من الداخل عمليات تخريبية لا حصر لها، كما هو ظاهر من الأحداث التي مهدت للفتنة وأشعلت نارها وأوقعت الخلاف بين المسلمين، وخطر هذا الكيد يكمن في أن هذه القوة المعادية غير واضحة الأبعاد، مدسوسة في صفوف المسلمين، قديرة على الاستخفاء في أعقاب أي تخريب تمارسه.
وقد نبه القرآن الكريم إلى كيد المنافقين وخطرهم على المجتمع الإسلامي، وإلى الوسائل والطرق الملتوية الخفية التي يستعملونها لتحطيم الإسلام والقضاء عليه، حتى يكون المسلمون على بينة منهم فلا يخدعون. ولذلك لم يكن غريباً أن يستغرق النفاق والمنافقين ما يقرب من ٣٤٠ آية من آيات الكتاب العزيز.