ولا ريب أن اليهود من أوائل من سلك هذا المسلك الخبيث، وهو إذكاء النفاق والتستر خلفه لزعزعة دعائم الإسلام، وكان عبد الله بن سبأ وطائفته من أبرز هؤلاء المنافقين الذين كادوا للإسلام، حيث خطط لإذكاء نار الفتنة في خلافة عثمان - رضي الله عنه - هذا بالإضافة إلى أثره هو وأعوانه في الفتنة في خلافة علي - رضي الله عنه - بعد أن اتفق المسلمون على الصلح.
الثانية: إن ما حدث من جانب الصحابة - رضوان الله عليهم - في هذه الفتنة يحمل على حسن النية والاختلاف في التقدير والاجتهاد، كما يحمل على وقوع الخطأ والإصابة. ولكنهم على كل حال كانوا مجتهدين، وهم لإخلاصهم في اجتهادهم مثابون عليه في حالتي الإصابة والخطأ، وإن كان ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ؛ لأن كل فئة كانت لها وجهة نظر تدافع عنها بحسن نية، حيث إن الخلاف بينهم لم يكن بسبب التنافس على الدنيا، وإنما كان اجتهاداً من كل منهم في تطبيق شرائع الإسلام.
وقد سئل بعض السلف عن الدماء التي أريقت بين الصحابة - رضي الله عنهم - فقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وسئل ابن المبارك عن الفتنة التي وقعت بين عليّ ومعاوية - رضي الله عنهما - فقال: (فتنة قد عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا)، يعني في التحرز من الوقوع في الخطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيباً فيه.
وقال ابن فورك: (ومن أصحابنا من قال: إن سبيل ما جرى بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة، فكذلك فيما جرى بين الصحابة.
وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: (قتال شهده أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا). وقال المحاسبي: (فنحن نقول كما قال الحسن البصري، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عندما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأياً منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل، إذ كانوا غير متهمين في الدين.
وجاء في الحديث الصحيح: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة).
يقول الحافظ ابن حجر: (والمراد بالفئتين، فئة عليّ ومن معه، وفئة معاوية ومن معه، والمراد بالدعوة الإسلام على الراجح، وقيل: المراد اعتقاد كل منهما أنه على الحق.
وروى الإمام البخاري في تاريخه عن أم عمارة - حاضنة لعمار - قالت: اشتكى عمار، قال: (لا أموت في مرضي، حدثني حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني لا أموت إلا قتلاً بين فئتين مؤمنتين).
ويقول القاضي ابن العربي في تفسير قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {٩} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. فلم يخرجهم عن الإيمان بالبغي والتأويل، ولا سلبهم اسم الأخوة بقوله بعده: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. فهذه كلها امور جرت على رسم النزاع، ولم تخرج عن طريق من طرق الفقه، ولا عدت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة والمخطئ أجراً واحداً. وما وقع من روايات في كتب التاريخ - عدا ما ذكرنا - فلا تلتفتوا إلى حرف منها فإنها كلها باطلة.