ويقول النووي - رحمه الله -: ( ... واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة- رضي الله عنهم - ليست بداخله في هذا الوعيد (يعني قول - صلى الله عليه وسلم - إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ، فوجب عليه قتاله ليرجع إلى الله، وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه اجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه).
ويورد شيخ الإسلام ابن تيمية رأي أهل السنة في هذه المسألة مستبعداً رأي أهل البدع من الخوارج والرافضة والمعتزلة الذين جعلوا القتال موجباً للكفر أو الفسق، فينقل أن أهل الحديث متفقون على عدالة القوم ثم يقول:(وأهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة، بل يمكن أن يقع الذنب منهم، والله يغفر لهم بالتوبة ويرفع بها درجاتهم،){وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {٣٣} لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ {٣٤} لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. إن الأنبياء هم المعصومون فقط، أما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا معصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما اجتهادهم فقد يصيبون فيه أو يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجر واحد على اجتهادهم. وجمهور أهل العلم يفرقون بين الخوارج المارقين وبين أصحاب الجمل وصفين ممن يعد من البغاة المتأولين، وهذا مأثور عن الصحابة وعامة أهل الحديث والفقهاء والأئمة).
واعتبر ابن تيمية هذا البغي مجرداً، وأهله لا يكفرون باتفاق أئمة الدين، لأن القرآن نص على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي، وليس ما كان بغياً وظلماً وعدواناً يخرج عموم الناس من الإيمان ولا يوجب لعنتهم، فكيف يخرج ذلك من كان خير القرون!.
في مقام آخر يقول:(فمن جزم في واحد من الصحابة بأن له ذنباً يدخل به النار قطعاً فهو كاذب مفتر، فإنه لو قال ما لا علم له به لكان مبطلاً، فكيف إذا قال ما دلت الدلائل الكثيرة على نقيضه! فمن تكلم فيما شجر بينهم، وقد نهى الله عنه من ذمهم أو التعصب لبعضهم بالباطل، فهو ظالم معتد .. ).
ويقول الحافظ الذهبي:(فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غالياً في الحب، مفرطاً في البغض، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟! فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق، واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين، وتبصرنا، فعذرنا، واستغفرنا، وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ إن شاء الله مغفور، وقلنا كما علمنا الله:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا}، وترضينا أيضاً عمن اعتزل الفريقين كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، ومحمد بن سلمة، وسعيد بن زيد وخلق كثير، وتبرأنا من الخوارج الذين حاربوا علياً وكفروا الفريقين).
ويقول الحافظ ابن حجر:(واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، وأن المصيب يؤجر أجرين).