٧ - عندما تكونت الدولة العراقية لم يكن بمقدور هذه الدولة الوليدة أن تتحمل أعباء المحافظة على الأمن في مناطق الشمال الجبلية التي اشتهرت بالقلاقل والنزع إلى السلاح فضلاً عن الأعباء المالية اللازمة لتصريف شؤونها الإدارية والتعليمية والصحية وغيرها، فإن بريطانيا تعهدت لهذه الدولة بأن تمدها بما يلزم من مساعدات ومعونات عسكرية تحتاج إليها وحافظت في الوقت نفسه على التظاهر أمام الكرد بأنها تعطف على أمانيهم الوطنية. وهكذا فإن الأمور كانت تدور في حلقةٍ مفرغة –بريطانيا تتظاهر بالعطف على الكرد فيشعر هؤلاء بحاجة دائماً إلى مساندتها، بينما تستنجد الحكومة العراقية بها وتطلب مساعدتها كلما قام عصيانٌ كردي جديد وتحصل عليها. ولقد انطلقت تلك الوعود على القيادات الكردية العشائرية مما جعلها تحمل السلاح ضد حكومة بغداد، ومنذ ذلك الوقت أصبح الشغل الشاغل لحكومة بغداد وجيش العراق هو حركات العصيان في الشمال الكردي.
٨ - لقد جرى تأسيس الجيش العراقي رغم ممانعة الإدارة البريطانية في العراق ولذلك وضعت بريطانيا خططها أن تقبض على ناصية هذا الجيش وتسيره وفق رغباتها ومصالحها، وفرض قادة بريطانيين ومستشارين في قيادته، ولكن هذا الجيش كان وطنياً أصيلاً منذ ولادته ثم انضم إليه ضباط وجنود كرد من الطينة نفسها، فلم تجد بريطانيا إلا وسيلةً واحدةً لاحتوائه والحد من وطنيته وهي التقتير في تسليحه وزجه في قلاقل ومشاكل محليّة.
٩ - لقد بذل الإنجليز جهودهم لجعل هذا الجيش مستنفر الإمكانات والقدرات نحو المنطقة الكردية، حتى أن جميع خططه وتدريباته وطبيعة تسليحه كانت توضع لخدمة العمليات العسكرية في مناطق الشمال الجبلية، وبقي مخزونه من السلاح والعتاد فترات طويلةً في حالة نقصٍ دائمٍ، لا تمده بريطانيا منه إلا بما يكفل فقط مجابهة العصيان الكردي الذي كانت تخلقه وتقف خلفه سراً وأحياناً علناً. وهكذا فإنه كلما جهر العراقيون مطالبين بتزويد الجيش بالسلاح من بريطانيا تنفيذاً للمعاهدة الثنائية بين الطرفين، فإن بريطانيا كانت تقدم السلاح القليل ثم لا تلبث أن تخلق الأسباب لهدره في حوادث الكرد المسلحة. لقد كان من مخططات بريطانيا في العراق أن لا يلتقي العرب والكرد على حالٍ من الود أبداً.
١٠ - إذا كانت بريطانيا قد نجحت في هدم الثقة بين أبناء القومية الواحدة كما في الهند التي تضم عشرات القوميات واللغات ولم تكن يوماً قوميةً واحدةً، ومن خلال ظروفٍ كانت تتحكم فيها عوامل الجهل والتخلف، على الرغم من أنه لم يعرف التاريخ أيَّة خلافات حادة أو فوارق محددة أو كراهية متوارثة بين العرب والكرد، ولكن إحداث دولةٍ عراقيةٍ كهذه وبهذا الشمول الجغرافي جعل المؤامرات تنجح فيقع الكرد في براثنها ويوجهون نيران أسلحتهم إلى صدر الصديق دون العدو الحقيقي، فالعرب لم يشاركوا يوماً لا في اقتسام كردستان ولا في احتلالها، ولم يحاول العرب قهر الكرد أو سلبهم حقوقهم القومية، وهو أمرٌ لا خلاف عليه أبداً في سطور التاريخ الكردي نفسه، ولو بقي الكرد العراقيون مرتبطين بتركيا لما حصلوا على الحقوق القومية التي تمتعوا بها في العراق.