وكذلك أرى أن من واجب كل من تصدى لعلاج هذا الأمر أن يتصف بالاعتدال والاتزان في حكمه، وألا يكون هو متطرفاً في حديثه عن التطرف وطريقة علاجه. كما يجب ألا نقابل التكفير بتكفير مثله، وألا نواجه التعصب بتعصب، والرفض بالرفض، مجازاة للسيئة بمثلها، فجمهرة المحققين من علماء المسلمين تورعوا عن تكفير الخوارج، برغم إصرارهم على تكفير كل من عداهم من الأمة وإباحة دماءهم وأموالهم وحملهم السلاح عليهم، وقد سئل الإمام "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه أكفار هم؟ فكان جوابه، من الكفر فروا، قيل له فما هم؟ قال: إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم. فينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيل، فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد على أنه كافر، (التفرقة بين الإيمان والزندقة، الغزالي). قال العلماء .. (وباب التكفير باب خطر ولا نعدل بالسلامة شيئاً) – فلا بد من الترشيد والتوجيه وترك العنف، ووسائل المقاومة، فالفكر السقيم لا يعالج إلا بفكر سليم، والحجة لا تقارع إلا بالحجة، وأن الشبهة الزائفة لا تقاوم إلا بالحجة الدامغة، والعنف لا يولد إلا عنفاً، وقد لا يزيدها إلا توسعاً، ولا يزيد أصحابها إلا إصرارا عليها.
ولماذا نحاكم العنف الذي يجري دون أن نحاكم من دفع إليه؟ وإنما الواجب أن نعالج بالإقناع والبيان وإقامة الحجة وإزاحة الشبهات.
واجب الشباب: إن أول ما يجب على الشباب أن يصنعوه هو تصحيح نظرتهم، وتقويم أفكارهم حتى يعرفوا دينهم على بصيرة، ويفقهوه عن بينة، ونقطة البداية في هذا الفقه المنشود هي: سلامة المنهج الذي يجب أن يسلكوه في فهم الإسلام، والتعامل مع أنفسهم ومع الناس والحياة على أساسه.
ولهذا اهتم علماء الأمة بوضع القواعد والضوابط اللازمة لحسن الفهم والاستنباط فيما نص عليه الشارع أو فيما لا نص فيه ومن هنا نشأ علم "أصول الفقه" ليضبطوا به فقههم، وقواعد منثورة في كتب أصول التفسير وعلوم القرآن، أو في كتب علوم الحديث ومصطلحه، وغير هذه وتلك قواعد أخرى وضوابط في كتب العقيدة أو التفسير أو في شروح الحديث، أو في كتب الفقه، أو غيرها، المهم إذن هو الفقه الواعي لدين الله، الفقه الذي لا يعتمد على قراءات فجة، ولا على فهم سطحي لنصوص الشرع، يخطف الآيات والأحاديث خطفاً دون تبصر وتعمق لأسرارها ومقاصدها، إنما نريده فقهاً رشيداً متكاملاً، يقوم على منهج سديد، يراعى عدة أمور: فقه الجزئيات في ضوء الكليات، ورد المتشابهات إلى المحكمات، والظنيات إلى القطعيات، حتى يتألف منها جميعاً نسيج واحد مرتبط بعضه ببعض، متصل لحمته بسداه ومبدؤه بمنتهاه. وهذا لا يتأتى إلا بسعة الاطلاع على النصوص وخاصة الأحاديث والآثار والتعمق في معرفة أسباب ورودها وملابسات وقوعها، والغايات المتوخاة منها مع مراعاة الفقه في مراتب الأحكام وأدب الخلاف الذي يغفل عنه بعض المتدينين.
فمراتب الأحكام الشرعية ليست في درجة واحدة من حيث ثبوتها، وبالتالي من حيث جواز الاختلاف فيها، فهناك الأحكام الظنية التي هي مجال الاجتهاد،
وتقبل تعدد الأفهام والتفسيرات، ومنها الأحكام المتعلقة بالعمل، كأحكام الفقه، فهذه يكفي فيها الظن بخلاف الأحكام المتعلقة بالعقيدة التي لا يغني فيها إلا القطع واليقين.