وأما اشتغاله بالعلم فها هو أيده الله تعالى يعقد مجالس العلم في كلّ يوم بعد صلاة الصبح، ويحضر لذلك أعلام الفقهاء ونجباء الطلبة بمسجد قصره الكريم، «١٠٧» فيقرأ بين يديه تفسير القرآن العظيم وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفروع مذهب مالك رضي الله عنه، وكتب المتصوّفة وفي كل علم منها له القدح المعلى، يجلو مشكلاته بنور فهمه ويلقي نكته الرائقة من حفظه، وهذا شأن الائمة المهتدين والخلفاء الراشدين، ولم أر من ملوك الدنيا من بلغت عنايته بالعلم إلى هذه النهاية، فقد رأيت ملك الهند يتذاكر بين يديه بعد صلاة الصبح في العلوم المعقولات خاصة، ورأيت ملك الجاوة يتذاكر بين يديه بعد صلاة الجمعة في الفروع على مذهب الشافعي خاصة، وكنت أعجب من ملازمة ملك تركستان لصلاتي العشاء الآخرة والصبح في الجماعة، حتّى رأيت ملازمة مولانا- أيده الله- في العلوم كلّها في الجماعة، ولقيام رمضان والله يختص برحمته من يشاء «١٠٨» .
قال ابن جزي: لو أن عالما ليس له شغل إلا بالعلم ليلا ونهارا لم يكن يصل إلى أدنى مراتب مولانا أيده الله في العلوم مع اشتغاله بأمور الأئمة وتدبيره لسياسة الأقاليم النائية ومباشرته من حال ملكه ما لم يباشره أحد من الملوك ونظره بنفسه في شكايات المظلومين، ومع ذلك كله فلا تقع بمجلسه الكريم مسألة علم في أيّ علم كان، إلا جلا مشكلها، وباحث في دقائقها، واستخرج غوامضها واستدرك على علماء مجلسه ما فاتهم من مغلقاتها، ثم سما- أيده الله- إلى العلم الشريف التصوفي ففهم إشارات القوم وتخلق بأخلاقهم، وظهرت آثار ذلك في تواضعه مع رفعته، وشفقته على رعيته ورفقه في أمره كله، وأعطى للآداب حظا جزيلا من نفسه فاستعمل أبدعها منزعا وأعظمها موقعا، وصارت عنه الرسالة الكريمة والقصيدة اللتان بعثهما إلى الروضة الشريفة المقدسة الطاهرة: روضة سيد المرسلين وشفيع المذنبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبهما بخط يده الذي يخجل الرّوض حسنا، وذلك شيء لم يتعاط أحد من ملوك الزمان إنشاءه ولا رام إدراكه «١٠٩» .