للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صرعاهم ولائم للنسور، ثم اقتحموا ربض المدينة الأعظم فقرعوه، وجدّلوا من دافع عن أسواره وصرعوه، وأكواس الحتوف جرّعوه، ولم يتصل أولى الناس بأخراهم، ويحمد بمخيم النصر العزيز سراهم، حتى خذل «٩» الكافر الصبر وأسلم الجلد، ونزل على المسلمين النصر فدخل البلد، وطاح في السيل الجارف الوالد منه والولد، وأتهم المطرف والمتلد، فكان هولا بعد الشناعة، وبعثا كقيام الساعة، أعجل المجانيق عن الركوع والسجود، والسلالم عن مطاولة النجود، والأيدي عن ردم الخنادق والأغوار، والأكبش عن مناطحة الأسوار، والنفوط عن إصعاق الفجار، وعمد الحديد، ومعاول البأس الشديد، عن نقب الأبراج ونقض الأحجار، فهيلت الكثبان، وأبيد الشيب والشبان، وكسرت الصّلبان، وفجع بهدم الكنائس الرهبان، وأهبطت النواقيس من مراقيها العالية وصروحها المتعالية، وخلعت ألسنتها الكاذبة، ونقل ما استطاعته الأيدي المجاذبة، وعجزت عن الأسلاب «١٠» ذوات الظهور، وجلل الإسلام شعار العزّ والظهور، بما خلت عن مثله سوالف الدهور والأعوام والشهور، وأعرست الشهداء ومن النفوس المبيعة من الله تعالى نحل الصدقات والمهور. ومن بعد ذلك هدم السور، ومحيت عن محيطه المحكم السطور، وكاد يسير ذلك الجبل الذي اقتعدته المدينة ويدك ذلك الطور، ومن بعد ما خرب الوجار، عقرب الأشجار، وعفّر المنار، وسلطت على بنات التراب والماء النار، وارتحل عنها المسلمون وقد عمتها المصائب، وأصمى لبّتها السهم الصائب، وجللتها القشاعم العصائب، فالذئاب في الليل البهيم تعسل، والضباع من الحدّب البعيد تنسل، وقد ضاقت الجدل عن المخانق، وبيع العرض الثمين بالدانق، وسكبت أسورة الأسوار، وسوّيت الهضاب بالأغوار، واكتسحت الأحواز القاصية سرايا الغوار، وحجبت بالدخان مطالع الأنوار، وتخلفت قاعتها عبرة للمعتبرين وعظة للناظرين، وآية للمستبصرين، ونادى لسان الحمية، يا لثارات الإسكندرية، فأسمع آذان المقيمين والمسافرين، وأحقّ الله الحقّ بكلماته وقطع دابر الكافرين.

«ثم كان الحركة إلى أختها الكبرى، ولدتها الحزينة عليها العبرى، مدينة أبدة «١١» ذات العمران المستبحر، والربض الخرق المصحر، والمباني الشّمّ الأنوف، وعقائل المصانع الجمة الحلي والشنوف، والغاب الأنوف، بلدة التجر، والعسكر المجر، وأفق الضّلال الفاجر الكذب على الله تعالى الكاذب الفجر، فخذل الله تعالى حاميتها التي تعيي الحسبان عدّها، وسجر بحورها التي لا يرام مدّها، وحقّت عليها كلمة الله تعالى التي لا يستاع ردّها، فدخلت لأول وهلة، واستوعب جمّها والمنة لله تعالى في نهلة، ولم يكف السيف من عليهنا ولا مهلة، فلمّا تناولهنا العفا والتخريب، واسباحها الفتح القريب، وأسند عن عواليها حديث النصر الحسن

<<  <  ج: ص:  >  >>