ذلك فإن نقل البلفيقي حول الكنيسة ونقل التمگروتي عنه حول قابس ونقل الزّياني عن ذلك (الحوار) ... كل ذلك يبقى في عهدة رواته، سامحهم الله! ولم يسلم ابن بطوطة من الذين تقوّلوا عليه حتى في عصرنا الحديث هذا، فهناك من نقل عنه أنه خرج مغاضبا لذويه وانه لم يكن متعلقا بأسرته! ومنهم من ذكر أنه أي ابن بطوطة تأثر بما قيل إنه حديث (اطلبوا العلم ولو بالصّين) فشدّ الرحلة من اجل ذلك للصين! بل وفى العلماء من نسب إليه حديثه عن البلهارسيا في مصر ... وفي علماء الهند من حكى لي عن وقائع غريبة تروي عن ابن بطّوطة هناك ... !!
غير أنه إذا كان البحث قد أدى بنا إلى أنه ليست هناك زيادات كثيرة على" تلخيص" ابن جزي لتقييد ابن بطوطة، فقد اكتشفنا إضافات فرضت علينا أن نقف أمامها معقّبين أو مصلّحين أو مستدركين. وحملتنا على الاقتناع حقّا بأن نشر الرحلة من قبل الأستاذين ديفريميري (DEFREMERY) وسانگينيتي (SANGUINETTI) في منتصف القرن الماضي معتمدين على المخطوطات الثلاث، أصبح متجاوزا فعلا سيما مع ما عثرنا عليه من تحريف لبعض الكلمات أو نقص في بعض الألفاظ مما سيقع التّنبيه عليه في مكانه بحول الله بعد أن توفّرنا على نحو من ثلاثين مخطوطة ...
وقد كان من حوافز نشر الرحلة كذلك رغبة ملحة في الاستجابة لأمنية غالية شعرت بأهميتها عند ما انتسبت للمؤتمر العالمي للأسماء الجغرافية، تلك هي ضبط المواقع الجغرافية التي ذكرها الرحالة، وهي زهاء ألف علم جغرافي ورد ذكرها في الرحلة إلى القارات الثلاث، وهذه ثروة هائلة كان علينا أن نحافظ عليها كما أداها لنا ابن بطوطة.
نحن نعلم أنّ السبب في تأليف ياقوت الحموي لموسوعته العظيمة:(معجم البلدان) هو ضبط علم جغرافي ورد في حديث نبوي شريف. لقد كان ياقوت بمرو الشاه خان «٤» في مجلس يناقش موضوع أسواق العرب في الجاهلية وضبط كلمة (حباشة) حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتّجر لحساب السيدة خديجة، فرأى ياقوت أنها بضم الحاء، ورأى أحد المحدثين أنها بفتح الحاء، فاندفه ياقوت يبحث عن نصوص تؤيد ما ذهب اليه وطال بحثه حتى وقع على ما يؤيد رأيه ... وهنا فكّر في وضع موسوعة لضبط أسماء البلدان والمواقع على ما يقوله هو في المقدمة مغتنما هذه الفرصة ليردّ على المثل القائل:" ما ترك الأول للآخر شيئا"، ومردّدا قوله الجاحظ: ليس هناك أضر على العلم من هذا المثل الذي يفتّر الهمة ويضعف المنّة!! وهكذا جمعت عددا من الخرائط من ذات المقياس الواسع الذي يصل احيانا إلى مقياس واحد على خمسين ألفا. وهنا وجدت نفسي فعلا أنني أمام عالم واسع فسيح الأرجاء..