جبل فخيل لنا أنها قرية، وكان وصولنا إلى المرسى وقت الزوال أو قبله، فلمّا ظهرت لنا المدينة أحببت المشي إليها والمبيت بها، وكنت قد كرهت صحبة أهل المركب، فسألت عن طريقها فأخبرت أنّي أصل اليها عند العصر، فاكتريت أحد البحريّين ليدلّني عن طريقها، وصحبني خضر الهنديّ الذي تقدّم ذكره وتركت أصحابي مع ما كان لي بالمركب ليلحقوا بي في غد ذلك اليوم، وأخذت أثوابا كانت لي، فدفعتها لذلك الدليل ليكفيني مؤنة حملها وحملت في يدي رمحا، فإذا ذلك الدليل يحبّ أن يستولي على أثوابي! فأتى بنا إلى خليج يخرج من البحر فيه المدّ والجزر فاراد عبوره بالثياب، فقلت له: إنّما تعبر وحدك وتترك الثياب عندنا فإن قدرنا على الجواز والّا صعدنا نطلب المجاز، فرجع ثمّ رأينا رجالا جاوزوه عوما فتحقّقنا أنّه كان قصده أن يغرّقنا ويذهب بالثياب فحينئذ أظهرت النشاط وأخذت بالحزم وشددت وسطى، وكنت أهزّ الرمح فهابني ذلك الدليل، وصعدنا حتّى وجدنا مجازا، ثمّ خرجنا إلي صحراء لا ماء بها وعطشنا واشتدّ بنا الأمر فبعث الله لنا فارسا في جماعة من أصحابه، وبيد أحدهم ركوة ماء، فسقاني وسقى صاحبي، وذهبنا نحسب المدينة قريبة منّا وبيننا وبينها خنادق نمشي فيها الأميال الكثيرة.
فلمّا كان العشيّ أراد الدليل أن يميل بنا إلى ناحية البحر وهو لا طريق له لأن ساحله حجارة فأراد أن ننشب فيها ويذهب بالثياب، فقلت له: إنّما نمشي على هذه الطريق التي نحن عليها وبينها وبين البحر نحو ميل، فلمّا أظلم الليل، قال لنا: إن المدينة قريبة منّا، فتعالوا نمشي حتّى نبيت بخارجها إلى الصباح، فخفت أن يتعرّض لنا أحد في طريقنا، ولم أحقّق مقدار ما بقى إليها، فقلت له: إنّما الحقّ أن نخرج عن الطريق فننام، فإذا أصبحنا أتينا المدينة إن شاء الله.
وكنت قد رأيت جملة من الرجال في سفح جبل هنالك، فخفت أن يكونوا لصوصا وقلت التستّر أولى، وغلب العطش على صاحبي فلم يوافق على ذلك، فخرجت عن الطريق وقصدت شجرة من شجر أمّ غيلان، وقد أعييت وأدركني الجهد، لاكنّي أظهرت قوّة وتجلّدا خوف الدّليل، وأمّا صاحبي فمريض لا قوّة له، فجعلت الدليل بيني وبين صاحبي، وجعلت الثياب بين ثوبي وجسدي، وأمسكت الرمح بيدي، ورقد صاحبي، ورقد الدّليل، وبقيت ساهرا، فكلّما تحرّك الدّليل كلّمته وأريته أنّي مستيقظ ولم نزل كذلك حتّى أصبح، فخرجنا إلى الطّريق فوجدنا الناس ذاهبين بالمرافق إلى المدينة، فبعثت الدليل ليأتينا بماء، وأخذ صاحبي الثياب.
وكان بيننا وبين المدينة مهاو وخنادق، فأتانا بالماء فشربنا وذلك أوان الحرّ، ثمّ وصلنا إلى مدينة قلهات، وضبط اسمها بفتح القاف واسكان اللام وآخرة تاء مثنّاة، فأتيناها ونحن