للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القوافل، وكان الكثير ممّن ينزلها إذا بلغتهم قصتها أحبّوا أن ينظروا إليها، فلا يسألون عنها رجلا، ولا امرأة، ولا غلاما إلّا عرفها ودلّ عليها، فلما وافيت الناحية طلبتها، فوجدتها غائبة على عدّة فراسخ، فمضيت في أثرها من قرية إلى قرية فأدركتها بين قريتين، تمشي مشية قوية، وإذا هي امرأة نصف، جيدة القامة، حسنة البدن، ظاهرة الدم، متورّدة الخدّين، ذكية الفؤاد، فسايرتني وأنا راكب، فعرضت عليها مركبا فلم تركبه، وأقبلت تمشي معي بقوة.

وكان ذكر لي الثقات من أهل تلك الناحية أنه كان من يلي خوارزم من العمّال يحصرونها الشهر والشهرين والأكثر في بيت يغلقونه عليها، ويوكّلون بها من يراعيها، فلا يرونها تأكل ولا تشرب، ولا يجدون لها أثر بول ولا غائط، فيبرّونها ويكسونها، ويخلون سبيلها.

فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها، استقصصتها [١] عن حديثها، وسألتها عن اسمها وشأنها كلّه، فذكرت أن اسمها رحمة بنت إبراهيم، وأنه كان لها زوج نجّار فقير، معيشته من عمل يده، لا فضل في كسبه عن قوت أهله، وأن لها منه عدّة أولاد، وأن الأقطع ملك التّرك قتل من قريتهم خلقا كثيرا، من جملتهم زوجها، ولم يبق دار إلا حمل إليها قتيل.

قالت: فوضع زوجي بين يدي قتيلا، فأدركني من الجزع ما يدرك المرأة الشابة على زوج أبي الأولاد.

قالت: واجتمع النساء من قراباتي والجيران يسعدنني [٢] على البكاء، وجاء الصبيان- وهم أطفال لا يعقلون من الأمر شيئا- يطلبون الخبز، وليس عندي ما أعطيهم، فضقت صدرا بأمري، ثم إني سمعت أذان المغرب، ففزعت إلى الصلاة، فصلّيت ما قضى لي ربي، ثم سجدت أدعو وأتضرّع إلى الله، أسأله الصبر، وأن يجبر يتم صبياني، فنمت في سجودي، فرأيت


[١] في الأصل: «قصصتها» ، وفي المطبوع: «اقتصصتها» وما أثبته من «طبقات الشافعية الكبرى» .
[٢] يعني يعاونني. انظر «لسان العرب» (سعد) .

<<  <  ج: ص:  >  >>