من خلافهم متوخيًا مواطن الاتفاق ما أمكنه كان آخذًا بالحزم، عاملًا بالأَوْلى، وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف توخي ما عليه الأكثر منهم والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد فإنَّه قد أخذ بالجزم والأحسن والأولى مع جواز أَنْ يعمل بقول الواحد، إلَّا أنَّني أكره أَنْ يكون ذلك من حيث إنَّه يكون قد قرأ مذهب واحد منهم، أَوْ نشأ في بلد لم يعرف فيها إلَّا مذهب إمام منهم، أَوْ كان شيخه ومعلمه على مذهب فقيه من الفقهاء خَاصَّة فقصر نفسه على اتباع ذلك المذهب، حتى إنَّه إذا حضر عنده خصمان وكان ما تشاجرا فيه مما يفتي الفقهاء الثلاثة فيه بحكم، نحو الوكيل بغير رضى الخصم، وكان الحاكم حنفيًا، وقد علم أَنَّ مالكًا والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل فإنَّ أبا حنيفة لم يجز هذه الوكالة، فعدل عما أجمع عليه هؤلاء الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة بمجرد أنه قال فقيه هو في الجملة من فقهاء الأتباع له من غير أَنْ يثبت عنده بالدليل، ولا أداه الاجتهاد إلى ما قاله أبو حنيفة، أَوْ إلى ما اتفق عليه الجماعة -فإنَّني أخاف على هذا أَنْ يكون متبوعًا من الله -سبحانه وتعالى- بأَنَّه قد اتبع في ذلك هواه، وأَنّه لا يكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ... وكذلك لو كان القاضي على مذهب أحمد فاختصم إليه نفسان، فقال أحدهما: لي عليه مال، فقال الآخر: كان له عليَّ وقضيته، فقضى عليه بالبراءة