أشهى لأنفسهم وأيسر عليهم من تتبع الرواة في البلدان والإمعان في جمع الأحاديث والآثار، ومعرفة أحوال الرواة وعاداتهم، والإمعان في ذلك ليعرف الصحيح من السقيم والصواب من الخطأ والراجح من المرجوح، ويعرف العام والخاص والمطلق والمبيَّن، وغير ذلك، فوقعوا فيما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال:
"إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيَتْهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم".
راجع:"إعلام الموقعين" طبعة مطبعة النيل بمصر (ج ١ ص ٦٢) وراجع كتاب "العلم" لابن عبد البر.
فوقع فيما ذهبوا إليه وعملوا بعْدُ وأفتوْا مسائل ثبتت فيها السنة مخالفة لما ذهبوا إليه، لم يكونوا اطلعوا عليها، فكان الحديث من تلك الأحاديث إذا بلغهم ارتابوا فيه لمخالفته ما ذهب إليه أسلافهم واستمر عليه عملهم، ورأوا أنه هو الذي يقتضيه النظر المعقول (القياس).
فمن تلك الأحاديث ما كان من الثبوت والصراحة بحيث قهرهم فلم يجدوا بُدًّا من الأخذ به، وكثير منها كانوا يردونها ويتلمسون المعاذير، مع أن منها ما هو أثبت وأظهر وأقرب إلى القياس من أحاديث قد أخذوا بها، لكن هذه التي أخذوا بها مع ما فيها من الضعف ومخالفة القياس وردت عليهم قبل أن يذهبوا إلى خلافها فقبلوها اتباعا، وتلك التي ردوها مع قوة ثبوتها إنما بلغتهم بعد أن استقر عندهم خلافها واستمروا على العمل بذلك ومضى عليه أشياخهم، وربما أخذوا بشيء من النقل ثم بلغهم من السنة ما يخالفه فأعجزهم أن ينظروا كما ينظر أئمة الحديث لمعرفة الصحيح من السقيم والخطأ من الصواب والراجح من المرجوح، فقنعوا بالرأي كما ترى أمثلة لذلك في قسم "الفقهيات"، ولا سيما في مسألة ما تُقطع فيه يدُ السارق، وهذا في دَيدَنُهُم وعليه يعتمد الطحاوي وغيره منهم.