الحمد لله الّذي هدى بِطاعتِهِ وألْهم، وعلّم الإنسان ما لم يكنْ يعْلمُ، أسْألُهُ شُكْر ما منّ به وأنْعم، وعُقْبى خيرٍ يُكْمِلُ بها نُعْماهُ ويخْتِمُ، وصلّى الله على محمّد نبِّيه وآله وسلّم.
وبعدُ، فإن الله سبحانه قد اقتضتْ حكمتُه أن يُنْشِأ لكل زمانٍ رجالًا، ينْصِبُون للناس حُججهُ وأعلامه، يُضِىءُ بِهِمْ سُبُلِ السالكين، ويُقِرُّ بهم أعْيُن الحائرين، ويشْحذُ بهم هِمم الطّالبين، ويدْفعُ بهم شُبه البطّالين.
فإذا سرى في الطّلبةِ العجْزُ والكسل، وتقاعس أربابُ الصّدارة عن البحْث والنّظرِ، فماتتِ الفكرةُ، وغابتِ الرحلةُ حينئذٍ يُخرج اللهُ تعالى من أصحابِ العقول الواعية، والأفهامِ النّيِّرة، والملكاتِ الفذّةِ منْ يهبُهُمُ اللهُ تعالى وافِر التحقيق، وبديع التدقيق، فتبعثُ به القضايا المهملة، وتُفتحُ بها الأبوابُ المغلقة، ويُنْفضُ به الترابُ عن مسائل واراها القعودُ والتقليدُ، وأماتها إيثارُ البلادةِ والجمودُ.
وهذا العلم -وهو علم الحديث- لا يحبُّه إِلَّا ذكورُ الرجال، ولا يبغضُه إِلَّا مخُنثوهم -كما قاله الثّوريّ وغيره- فهو من أنْفسِ أنواعِ العلوم وأغْلاها، وأعزِّها منالًا وأعْلاها، لا يتأتّى إِلَّا بطولِ النّفسِ في الطّلبِ، ومداومةِ النّظرِ والفِكْر فيه، والبحث في مسائله، واستقراءِ مناهجِ أهْله الذين هُمْ أعْلمُ به.
ولهذا وغيره لم يبرعْ فيه إِلَّا نفرٌ أفذاذ، هيّأهُمُ الله تعالى له، يبذُلون أنفسهم لخدمته، ويُسخِّرُون جُهْدهُم لحِفْظِه وتنْقِييهِ.