للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإيضاح ذلك أن الرغبة في طلب الحديث كانت في القرون الأولى شديدة، وكان إذا اشتهر شيخ ثقة معمِّر مكثر من الحديث، قصده الطلاب من آفاق الدنيا، منهم من يسافر الشهر والشهرين وأكثر ليدرك ذاك الشيخ، وأكثر هؤلاء الطلاب شُبَّان، ومنهم من لا سعة له من المال، إنما يستطيع أن يكون معه من النفقة قدرٌ محدودٌ يتقوَّت منه حتى يرجع أو يلقى تاجرا من أهل بلده يأخذ منه الشيء، وكان منهم مَنْ كل نفقته جراب يحمله، فيه خبز جاف يتقوت كل يوم منه كسرة يبلها بالماء ويجتزىء بها، ولهم في ذلك قصص عجيبة.

فكان يجتمع لدى الشيخ جماعة من هؤلاء، كلُّهم حريص على السماع منه، وعلى الاستكثار ما أمكنه في أقل وقت، إذ لا يمكنه إطالة البقاء هناك؛ لقلة ما بيده من النفقة، ولأنه يخاف أن يموت الشيخ قبل أن يستكثر من السماع منه، ولأنه قد يكون شيوخ آخرون في بلدان أخرى يريد أن يدركهم ويأخذ عنهم.

فكان هؤلاء الشباب يتكاثرون على الشيخ ويلحُّون عليه ويبرمونه، فيتعب ويضيق بهم ذرعا، وهو إنسان له حاجات وأوقات يجب أن يستريح فيها، وهم لا يَدَعُونَهُ (١).

ومع ذلك فكثير منهم لا يرضون أن يأخذوا من الشيخ سلاما بسلام، بل يريدون اختباره ليتبين لهم أضابط هو أم لا. فيوردون عليه بعض الأسئلة التي هي مظنة الغلط، ويناقشونه في بعض الأحاديث، ويطالبونه بأن يبرز أصل سماعه.

وإذا عثروا للشيخ على خطأ أو سقط، أو استنكروا شيئًا من حاله، خرجوا يتناقلون ذلك بقصد النصيحة، فكان بعض أولئك الشيوخ إذا ألَحَّ عليه الطلبة وضاق بهم ذرعًا أطلق تلك الكلمات:


(١) من ذلك ما روي عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية قال: "ما رأيت قومًا أعجب من أصحاب الحديث؛ يأتون من غير أن يُدْعَوْا، ويزورون من غير شوق، ويُبرمون بالمساءلة، يُملُّون بطول الجلوس". "كامل" ابن عدي (٦/ ٢٤٠٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>