فلا يزال أحدهم يطلب ويكتب إلى أن تبلغ سنه الثلاثين أو نحوها، فتكون أمنيته من الحياة أن يقبله علماء الحديث ويأذنوا للناس أن يسمعوا منه، وقد عرف أنهم إن اتهموه في حديثٍ واحدٍ أسقطوا حديثه وضاع مجهوده طول عمره وربح سوء السمعة واحتقار الناس.
وتجد جماعة من ذُرِّيَّة أكابر الصحابة قد جرحهم الأئمة.
وتجدهم سكتوا عن الخلفاء العباسين وأعمامهم لم يرووا عنهم شيئًا مع أنهم قد كانوا يروون أحاديث.
ومن تتبع أخبارهم وأحوالهم لم يعجب من غلبة الصدق على الرواة في تلك القرون، بل يعجب من وجود كذابين منهم.
ومن تتبع تشدد الأئمة في النقد لم يعجب من كثرة من جرحوه وأسقطوا حديثه، بل يعجب من سلامة كثير من الرواة وتوثيقهم لهم مع ذلك التشدّد.
وبالجملة فهذا الباب يحتمل كتابًا مستقلا، وأرجو أن يكون فيما ذكرته ما يدفع ما يرمي إليه المستشرقون وأتباعهم -بإفاضتهم في ذكر الوضع- من تشكيك المسلمين في دينهم وإيهامهم أن الله تعالى أَخَلَّ بما تكفَّلَ به من حفظ دينه، وأن سلف الأمّة لم يقوموا بما عليهم أو عجزوا عنه فاختلط الحق بالباطل، ولم يبق سبيل إلى تمييزه.
كلا، بل حجة الله تعالى لم تزل ولن تزال قائمة، وسبيل الحق مفتوحا لمن يريد أن يسلكه ولله الحمد. اهـ.
الموضع الثالث:
وقال في "الأنوار الكاشفة"(ص ٢٨٤ - ٢٨٥):
"لا يجهل عاقل أن أحوال الرواة مختلفة: فمنهم المغفل المتساهل الذي يبني على التوهم فيكثر غلطه، ومنهم الضابط المتقن المتثبت الذي يندر جدا أن يخطىء وليس كل ما يصلح مستندا للتوقف عن خبر الأول أو ردّه يصلح لمثل ذلك في خبر الثاني.