للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن تدبر علم أنه إنما يكون كاذبا على أحد وجهين:

الأول: أن يرسل ذاك الحديث جازمًا كأن يقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ...

الثاني: أن يكون ظاهر حاله في تحديثه أن ذاك الخبر عنده صدق أو محتمل أن يكون صدقًا فيكون موهمًا خلاف الواقع فيكون بالنظر إلى ذاك الإيهام كاذبًا، وقد علمنا أن قول من صحب أنسًا: "قال أنس ... " موهم بل مفهم إفهامًا تقوم به الحجة أنه سمع ذلك من أنس، إلا أن يكون مدلسًا معروفًا بالتدليس، فإذا كان معروفًا بالتدليس فقال فيما لم يسمعه من أنس: "قال أنس ... " لم يكن كاذبًا ولا مجروحًا، وإنما يلامُ على شرهه، ويُذْكَرُ بعادته لتعرف فلا تحمل على عادة غيره، وذلك أنه لما عُرف بالتدليس لم يكن ظاهرُ حاله أن لا يقول: "قال أنس ... " إلا فيما سمعه من أنس، وبذلك زال الإفهام والإيهام فزال الكذب.

فهكذا وأولى منه: من عُرف بأنه لحرصه على الجمع والإكثار والإغراب وعلو الإسناد يروي ما سمعه من الأخبار وإن كان باطلًا ولا يبّين، فإنه إذا عرف بذلك لم يكن ظاهر حاله أنه لا يحدث غير مبين إلا بما هو عنده صدق أو محتمل للصدق، فزال الإيهام فزال الكذب، فلا يجرح ولكن يلام على شرهه ويذكر بعادته لتعرف، وكما يكفي المدلس أن يعرف عادتَه أهلُ العلم وإن جهلها غيرهم فكذلك هذا؛ لأن الفرض على غير العلماء مراجعة العلماء، على أن العامّة يشعرون في الجملة بما يدفع اغترارهم الذي هوّل به الأستاذ، ولذلك كثيرًا ما نسمعهم إذا ذكر لهم حديث قالوا: هل هو في البخاري؟

فعلى هذا القول في أبي نعيم ومن جرى مجراه: إن احتمل أنهم لانهماكهم في الجمع لم يشعروا ببطلان ما وقع في رواياتهم من الأباطيل فعذرهم ظاهر، وهو أنهم لم يحدثوا بما يرون أنه كذب، وإنما يلامون على تقصيرهم في الانتقاد والانتقاء، وإن كانوا شعروا ببطلان بعض ذلك فقد عرفت عادتهم فلم يكن في ظاهر حالهم ما

<<  <  ج: ص:  >  >>